عمدة نيويورك الجديد، بيل دو بلاسيو، يريد إعادة الروح إليها. لا تفتقر هذه المدينة العالمية إلى الحيوية أبداً، من علامات فائض الروح أنّ البعض انتظر اكثر من عشر ساعات في جو بارد ليلة رأس السنة 2014 ليُشاهد تلك الكرة الشهيرة تهوي عند منتصف الليل ـ ولم يكن للحشود المجمعة في ساحة «تايمز» مجال للدخول إلى الحمامات لذا تجهّز البعض بحفاضات خاصّة بالبالغين كي لا يفوّت دوره باستقبال عام جديد في قلب «التفاحة» كما تُسمّى المدينة.
لكن نيويورك، وبرغم إغرائها وجاذبيتها لأكثر من خمسين مليون زائر سنوياً، عبارة عن مدينتين بسبب الفروق الطبقية، تماماً كما هي حال البلاد برمّتها. تُظهر الأضواء سحرها بوصفها مركزاً مالياً ومحوراً للأغنياء، فيما تئن طبقتها الوسطى وما دون المستويات المعيشية الوسطى تحت ارتفاع أكلاف العيش.
اليوم يأتي عمدة بتوجهات اجتماعية مختلفة؛ مختلفة كثيراً عن سلفه، رجل الأعمال الشهير، مايكل بلومبيرغ.
خاض بيل دو بلازيو معركته السياسية للفوز بأهم مركز في المدينة تحت شعار كيفية إعادة روح العدالة لكي يعيش الجميع الحلم الأميركي. «لن تعود المدينة بنظر أهلها وقفاً على أغنى 1% إنما مكاناً حيث يُستطيع الناس العاديون العيش بأكلاف معقولة، العمل وتأسيس العائلات؛ لن ننتظر وسنحقّق ذلك الآن».
تأتي التحولات السياسية في نيويورك - المدينة المعروفة تاريخياً بقسوتها الرأسمالية - في ظلّ نبرة متصاعدة ضدّ ممارسات السوق المنفلتة بعد خمسة أعوام على أسوأ أزمة تضرب النظام منذ العشرينيات.
جاءت بعض تلك الملاحظات من الرئيس الأميركي باراك أوباما نفسه، غير أنّ أبرزها كانت انتقادات البابا فرنسيس، للنظام الاقتصادي الذي يحكم العالم، وإلى ائتلاف بين الملحدين والمؤمنين على طريق أنسنة هذا النظام. (بطبيعة الحال ولّد هذا الموقف، تماماً كما حصل مع بيل دي بلايزيو، ردود فعل جاهلة تصف تصريحات البابا بأنها «ماركسية بحتة»).
يرى بابا الفتيكان أنه «فيما تتضخم إيرادات الأقلية على نحو هائل، تتسع الهوة التي تفصل بين الغالبية والازدهار الذي تتمتع به تلك القلّة». برأيه فإنّ «انعدام التوازن هو نتيجة الإيديولوجيات التي تدافع عن الحرية المطلقة للأسواق والمضاربة المالية».
هكذا «تولد دكتاتورية جديدة، غير مرئية، تفرض من دون كلل قوانينها وقواعدها الخاصة... إنّ التعطش للسلطة والتملّك لا يعرف حدوداً هنا». في هذا النظام «الذي يميل إلى نهش كل شيء يقف في طريق زيادة الأرباح، يُصبح كل ما هو هشّ، مثل البيئة، ضعيفاً ومنتهكاً أمام سوق مؤلّهة تحوّلت إلى القانون الوحيد».
لكلام البابا صدى، تحديداً في معقل الرأسمالية. استناداً إلى حسابات شركة «بلومبيرغ» ـ نعم بلومبيرغ نفسه ـ فإنّ عام 2013، وبرغم النحس الذي ينضح به وتُرجم في العديد من أقاليم العالم، كان ممتازاً لأصحاب المليارات. فقد ارتفعت قيمة ثروات أغنى 300 شخصية في العالم بواقع 524 مليار دولار إلى 3.7 تريليونات دولار. (مع العلم أنّ 70 شخصاً من هؤلاء فقط سجّلوا تراجعاً في صافي ثرواتهم).
تنقل الوكالة عن الخبراء في مجال تقويم الثروة والأصول أنّ خزنات الأغنياء ستستقبل المزيد في عام 2014 أيضاً. في الولايات المتّحدة تحديداً، ستبقى معدلات الفوائد منخفضة وسيستمرّ الأداء الجيد للسوق المالية.
ولكن في مقابل هذا النمط من مراكمة الثروات الهائلة، تسوء مؤشرات عدم المساواة في الولايات المتّحدة، وهي اليوم عند مستويات غير مشهودة منذ عام 1928. في نهاية عام 2012، ونتيجة سياسات استمرّت عقوداً، مثّل الفقراء 15% من سكان الولايات المتّحدة. إذا اعتمدنا المعدل نفسه في نهاية عام 2013، يكون عدد الأميركيين الفقراء 47 مليون نسمة. وهناك مؤشرات أكثر دلالة على غياب العدالة: واحد من أصل أربعة أميركيين دون سن البلوغ يعيش تحت خط الفقر.
تختلف الولايات المتّحدة كثيراً اليوم عما كانت عليه مطلع السبعينات حين وصل ازدهار ما بعد الحرب العالمية إلى أوجه (وللمفارقة، أسهم في تحقيقه حتّى الرؤساء الجمهوريون المحافظون، أبرزهم دوايت آيزنهاور، الذي رأى في مشروعه الضخم للطرقات السريعة مشروعاً لتطوير البنى التحتية وفي الوقت نفسه محفزاً لخلق فرص العمل؛ وبالتالي يكون هذا السياسي المحافظ كينزياً بامتياز!).
لكن حتّى حينها، وتحديداً عام 1973، لم تكن حصّة الخمس الافقر من الدخل الإجمالي سوى 4.3%؛ بعد ثلاثة عقود تراجعت هذه الحصة بنسبة 20%. وفيما تقلّصت حصّة الخمس الأوسط على سلّم الدخل، تعاظمت حصّة الخمس الأغنى؛ أي الفئة التي تنتمي إليها مجموعة الـ1% المحظوظة رأسمالياً. ومنذ بداية الألفية يحصد الخمس الأغنى اكثر من نصف مدخول البلاد، أي قرابة ثمانية تريليونات دولار حالياً.
هذه هي المعطيات التي يعكسها بيل دي بلازيو في خطابه، التي سبقته إليها الحركة الحقوقية الاجتماعية «احتلّ» (Occupy) حين نظمت احتجاجها الشهير لاحتلال «وول ستريت».
ماذا إذاً يُمكن أن يحققه فعلاً هذا الديموقراطي الأحمر؟
في رأي الاقتصادي الأميركي، دين بايكر ـ وهو مؤسس مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية (CEPR) ـ هناك مجالات كثيرة يُمكن لدي بلازيو، تحقيق الإنجازات الاجتماعية فيها «بصفته يُمثّل يسار الحزب الديموقراطي، وإن لم يكن ماركسياً». من بين السياسات التي يُمكن اعتمادها، حسبما يشرح بايكر في مقالة نشرتها صحيفة «غارديان» البريطانية بداية الأسبوع، إمكانية فرض ضرائب إضافية على الشركات المالية الضخمة والمصارف الاستثمارية ـ وإن بمعدلات منخفضة تحوطاً من هرب الشركات؛ فرض ضريبة على التحويلات المالية كما يجري نقاشه في أوروبا حالياً؛ تعزيز أوضاع العمال عبر زيادة التقديمات أو تليين سياسات الطرد: وهنا يُمكن ذكر إجراءات مثل خفض ساعات العمل لتجنّب طرد العمال، وضمان وجود عدد كاف من العمال لضمان حصول المرضى على أيام الراحة المطلوبة.
بناءً على نبرة خطابه ومضمونه يبدو أن العمدة الجديد الذي تسلّم مهمّاته بداية العام منفتح على مختلف الاقتراحات. والخروق التي قد يحقّقها في ولايته ستعني الكثير ليس فقط للمدينة التي يحكمها، بل للبلاد برمتها أيضاً، وحتى للعالم كذلك. إذا سعى إلى حلّ وإن جزئيا لأزمة ازدحام السير في المدينة (عبر تعزيز مجانية النقل المشترك مثلاً) يكون قد حقّق الكثير، فالزحمة الخانقة تؤدّي إلى خسارة المدينة ومحيطها ما يقارب 13 مليار دولار سنوياً، وأيضاً إلى خسارة 52 ألف وظيفة.
لمدينة نيويورك مكانتها الخاصة في العالم الرأسمالي. هي مركز وول ستريت وكبار المستثمرين، وإحدى أهمّ قنوات العمليات المالية التي تحصل عبر العالم. أما بالنسبة إلى أميركا، فهي قلب اقتصادي وديموغرافي ينبض من دون كلل منذ بدايات القرن السابع عشر، حين استوطنها الهولنديون وحولوها مركزاً تجارياً تحت اسم أمستردام الجديدة، قبل أن يسيطر عليها البريطانيون.
يسكن المدينة حالياً 8.4 ملايين نسمة تقريباً ـ أي ضعف عدد سكان لبنان ـ وهي تُعدّ الأكثر اكتظاظاً بين المدن الأميركية، والمدينة الأكبر على الإطلاق منذ عام 1790.
التجربة التي تنطلق في هذه المدينة إذاً في عام 2014، ستكون محط أنظار العالم برمته، وخصوصاً أنّ المدينة تحولت على مر تاريخها لتُصبح هذا النسيج الهجين الذي يتكلم أكثر من 800 لغة. يلاحظ جوزف بيرغر – وهو كاتب وصحافي في «نيويورك تايمز» – في كتابه «العالم في مدينة» (2007) أن «نيويورك المزخرفة المتجانسة التي كانت في الأربعينيات والخمسينيات... حين كانت الأم تترك ولدها ابن الثماني سنوات يسرح لأميال من دون قلق»، تلك المدينة «أضحت في المتاحف». كذلك ولّى زمان نيويورك السبعينيات والثمانينيات، حين «كان البالغ يخشى التجوال في المناطق الواسعة خشية التعرض للاعتداء أو للإهانة»، وحين «كانت المخاوف بين الأعراق المعزولة عن بعضها بعضاً هي المشاعر السائدة».
كيف هي نيويورك اليوم إذاً؟ «هي مزخرفة بألوان عديدة ولغات مختلفة؛ أكثر عالميّة من شانغهاي وكازابلانكا كما صورتهما السينما... يُمكن أن تجد العالم كله في هذه المدينة».
إذاً فتجربة الرأسمالية الاجتماعية في نيويورك اليوم ستكون بمثابة تجربة كونية؛ على الأقل لأصحاب المخيلات الواسعة!




جانيت يلين تتولى رئاسة البنك المركزي الأميركي


أصبحت جانيت يلين أول امرأة ترأس البنك المركزي الأميركي، بعدما وافق مجلس الشيوخ الأميركي على تعيينها في منصبها أول من أمس.
ووافق مجلس الشيوخ بأغلبية 56 صوتاً في مقابل 26 صوتاً على تعيين الخبيرة الاقتصادية والمتحدثة المفوهة، التي تعشق التنزه والطهو. وحصلت على أصوات العديد من الديمقراطيين لكن كان الجمهوريون هم من دعموها في الأساس. وعملت يلين (67 عاما)، نائبة لرئيس البنك المركزي بن برنانكي منذ عام 2010 وستحل محله حين تنتهي ولايته في نهاية الشهر الحالي. وستتولى بذلك زمام أكبر اقتصاد في العالم وتصبح أقوى شخصية في عالم المال. يذكر أن المرشح كان لاري سامرز، المقرب من الأسواق والشركات المالية، وتحت الضغط المتزايد لتحقيق التغيير جرى تعيين جانيت.
(رويترز)