بعد كل اجتماع تعقده روسيا وأوكرانيا من أجل حلّ أزمة الغاز، تكون النتيجة أشبه بالـ«عود إلى بدء» الذي يعزّز مخاوف أوروبية، لا تلغيها التطمينات على المستوى الرسمي، من عدم الحصول على غاز التدفئة هذا الشتاء.الثلاثاء الماضي، تحدثت المفوضية الأوروبية عن تقدم ملحوظ حول هذا الملف عقب اللقاء الذي عقد، في بروكسل، بين روسيا وأوكرانيا والاتحاد الأوروبي، ولكن هذا الاتفاق منوط بسداد الديون الأوكرانية لموسكو، التي ستقرَّر مصادرها، في اجتماع سيعقد الأربعاء المقبل.
إلا أن ما يدفع الدول الأوروبية إلى أخذ الموضوع بجدية، هو تصريحات أدلى بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال زيارته بلغراد، حين ربط إمدادات الغاز إلى أوروبا بالاتفاق مع أوكرانيا، ملمّحاً إلى أن إمدادات الغاز الروسية إلى الاتحاد الأوروبي قد تتأثر، إذا قررت كييف اقتطاع قسم من الغاز الروسي، لمواجهة النقص لديها.
تعتمد معظم دول القارة الشرقية على الغاز الروسي بنسبة قد تصل إلى 100%

وما يعزز مخاوف الدول الأوروبية، وخصوصاً الشرقية منها، السابقة الروسية في هذا المجال، في عامي 2006 و2009، حين قطعت موسكو إمدادات الغاز، بسبب عدم سداد الديون الأوكرانية والاستخدام الأوكراني للغاز الطبيعي المخصص للدول الأوروبية.
ورغم أن أوروبا بدأت بدعم سياسة الطاقة البديلة، منذ ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم، بالتوازي مع العقوبات التي فرضتها على روسيا، لاستباق أي حادثة مماثلة ولجعل أوروبا أقل اعتماداً على روسيا، إلا أن الحقيقة الواضحة للعيان، هي: ليست كل دول الاتحاد الأوروبي قادرة على فكّ ارتباطها بشركة «غازبروم»، عملاق الطاقة الذي تملكه الدولة الروسية. فأوروبا التي تستورد 30% من حاجتها من الغاز من روسيا، تعتمد معظم دولها الشرقية على هذا الغاز، بنسبة قد تصل إلى 100%.
وفي سبيل تخفيف «الابتزاز السياسي الروسي» من خلال الأزمة الأوكرانية، وقعت شركة «أو ام فاو» النمساوية، في نيسان الماضي، مذكرة تفاهم مع «غازبروم» لإتمام بناء الجزء النمساوي من خط أنابيب الغاز «ساوث ستريم»، وذلك بعد أيام على إقرار عقوبات أميركية وأوروبية على موسكو، ما سيسمح بإرسال الغاز الروسي إلى جنوب أوروبا، عبر طريق تحت البحر الأسود، ولكن هذا الخط إن كان سيساعد على تجاوز أوكرانيا كدولة عبور، إلا أنه في الوقت ذاته، يعزّز القبضة الروسية في مجال الطاقة، في ذلك الجزء من أوروبا.

تطمينات أوروبية

في 16 من الشهر الحالي، أكد المفوض الأوروبي للطاقة غونتر أوتينغر، رداً على تهديدات بوتين، أن «الأوروبيين لن يموتوا من البرد هذا الشتاء، حتى عندما يقطع الروس إمدادات الغاز». فقد أعد الأوروبيون، في حزيران الماضي، دراسة تستند إلى الأزمة الروسية _ الأوكرانية. وأشار أوتينغر إلى أن «هذه الدراسة تدلّ على أنه ليس هناك من معنى لاستخدام الغاز كسلاح سياسي». وبحسب تعبيره، أظهرت نتائج «اختبار الإجهاد» أنه يمكن الاستغناء عن الغاز الروسي، لمدة شهر، شرط تعاون الدول الأوروبية في ما بينها، ولكنه في الوقت ذاته، تحدث عن أنه لا بدّ لأوروبا من استغلال كافة أساليب التدفئة للتعويض عن حظر استيراد الغاز الروسي، إن كان باللجوء إلى الطاقة البديلة، أو بزيادة إنتاج الغاز النرويجي أو حتى باستيراد الغاز المسال، إضافة إلى توفير الطاقة وغيرها من البدائل التي سعى إلى الترويج لها.
بموازاة ذلك، سعت المفوضية الأوروبية إلى طمأنة كافة الدول الـ24 التي تستورد الغاز من روسيا، وحتى الست منها، التي تعتمد على الغاز الروسي بنسبة 100%، إلى أنه يمكن الاستغناء عن هذه المادة، وبالتالي «منع الابتزاز الروسي لأوروبا». فمثلاً، يمكن للأستونيين والفنلنديين الذين يُعدون الأكثر هشاشة، اللجوء إلى الطاقة البديلة، التي تتمثّل في الأخشاب المتوافرة بكثرة في فنلندا.
كما أن خط الدفاع الأول بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، هو بالاحتفاظ باحتياطي غاز أعلى مما كان عليه في عام 2009. فمعظم الدول كانت تعمل على تخزين الغاز منذ الربيع، حتى أصبحت خزاناتها مليئة بنسبة 93%، ما يعطيها سنداً أو دفعاً إلى الأمام لأسابيع، إذا فكرت روسيا في قطع إمداداتها. وحتى المجر، التي تعد من أبرز المتضررين من الأزمة السابقة، وسّعت مرافق التخزين تحت الأرض لتسع نحو 6.2 مليارات متر مكعب لتلبية الاستهلاك السنوي، الذي يصل إلى 10.2 مليارات متر مكعب، فوصلت إلى قدرة تخزينية تبلغ نحو 4.2 مليارات متر مكعب.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الجمهورية التشيكية، التي خزنت نحو 3.3 مليارات متر مكعب من حاجتها من الغاز، التي تصل إلى 7.5 مليارات متر مكعب.

الواقع معاكس للتطمينات الكلامية

ولكن هذه التطمينات على المستوى الرسمي لا تلغي المخاوف من واقع يمكن أن يفرضه قطع إمدادات الغاز الروسي. فالأرقام تتحدث في هذا الإطار، وهي أكبر دليل على الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي، مع ارتفاع استيراد هذه المادة من روسيا إلى 16 في المئة، خلال العام الماضي.
ولتثبيت هذه النظرية، فقد قدّر «معهد أوكسفورد لدراسات الطاقة» بأن أوروبا ستظل بحاجة إلى الغاز الروسي الطبيعي بمقدار 100 مليار متر مكعب سنوياً حتى عام 2030، أي إلى نحو 60 في المئة من الغاز المستورد في عام 2013. وقال الباحث في المعهد جوناثان ستيرن إنه بحلول عام 2020، ستتحول معظم الدول الأوروبية التي تعتمد على نحو كبير على الغاز الروسي، إلى استيراد الغاز المسال، وإلى الاعتماد على المزيد من خطوط الأنابيب التي تصلها بمورّدين آخرين، ولكن ستيرن تساءل في الوقت ذاته «أي دول ستدفع الكلفة في مقابل ذلك؟».
ورداً على ذلك، أشار إلى أن احتياطات الغاز التي يمكن اللجوء إليها من النرويج وبريطانيا تشهد نضوباً، فيما لا يمكن الاعتماد على صناعات الغاز الصخري المحلّي. كذلك فإن استيراد الغاز من شمال أفريقيا وشرق المتوسط وآسيا الوسطى وإيران والعراق سيحتاج إلى وقت لتحقيقه، لذا يبقى الحل الأفضل في استيراد الغاز الطبيعي المسال، ولكنه الأعلى كلفة.
أما الحل الآخر، وهو توليد الكهرباء من الفحم، فقد يجري اللجوء إليه على حساب هدف أهم، وهو الحدّ من انبعاثات الغازات الدفيئة.
غريغوريز بيتيل الباحث في «معهد سوبيسكي» في بولندا، قال لصحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية، إن «الدول تؤكد أنها تريد الابتعاد عن الغاز الروسي، ولكن هذا الأمر لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة»، فهذا التغيير سيحتاج إلى إنهاء عقود طويلة الأمد مع «غازبروم»، التي ستبقي الأسعار الجذابة، على الأقل خلال العقد المقبل.
ووفق بيتيل، فإنه «مع الأخذ في الاعتبار الاختلافات بين المناطق الأوروبية، إلا أن وسط أوروبا يبقى عملياً مرتبطا بروسيا»، مضيفاً أن «معظم أوروبا سيكون كذلك في المستقبل المنظور».
ما تقدم يظهر أن المفوضية الأوروبية اهتمت بالجانب الكمّي للاحتياجات متجنّبة التطرق إلى العواقب على مستوى أسعار الطاقة، الأمر الذي دفعها وما زال يدفعها للعمل من أجل إتمام اتفاق روسي أوكراني، يقيها الاصطدام بالواقع. فموسكو ستستمر في اداء دور بين بعض دول الاتحاد، وبالتالي ستضعف استجابتها لدعوات المفوضية للتعاون ولتطميناتها حول إمكانية الاستغناء عن الغاز الروسي.




تقاعس كييف يؤخر الاتفاق

تحصل أوروبا على نصف حصتها من الغاز الروسي عبر أوكرانيا، التي جرى إيقاف توريد الغاز الروسي إليها، في حزيران الماضي، بسبب النقاش حول الأسعار، كما أن موسكو تشدّد الخناق على كييف عن طريق منع دول الاتحاد الأوروبي من إعادة تصدير الغاز الروسي إليها من خلال «تدفقات عكسية».
وفي اجتماع عقد في 21 من الشهر الحالي، فشلت روسيا وأوكرانيا والاتحاد الأوروبي مجدداً في إبرام اتفاقية مؤقتة بشأن توريد الغاز الروسي إلى أوكرانيا، مع انعدام وجود مصادر مالية لدى كييف لسداد الاستحقاقات الروسية، وتقرّر عقد اللقاء الأربعاء المقبل، إلا أنه جرى الاتفاق مبدئياً على سعر الغاز لفترة الاتفاقية المؤقتة حتى آذار 2015، بواقع 385 دولاراً لكل ألف متر مكعب.
وصرح المفوض الأوروبي للطاقة غونتر أوتينغر، في ختام الاجتماع، بأن العقبة الرئيسية أمام إبرام اتفاقية غاز مؤقتة، تكمن في تقاعس كييف منذ سبعة أشهر عن سداد قيمة الغاز الذي استلمته من روسيا. ولم تحدّد المفوضية الأوروبية بعد مصادر التمويل لسداد ديون أوكرانيا، على أن تبحث في مجلس أوروبا قضية تخصيص قرض لكييف بهذا الشأن.