بطلٌ حتى اللحظة الأخيرة. هكذا هو برادلي مانينغ. ليس «مريضاً نفسياً» ولا «خائناً خدم العدو»، كما حاولت بلاده تصويره، بل هو الجندي اليافع الذي وقف أول من أمس في المحكمة ببزّته العسكرية الكاملة وبوعيه التام يقول للجنرالات: أتحمّل المسؤولية كاملةً. لهذه الأسباب قمت بفعلتي. لست خائفاً منكم. مانينغ ليس «صاحب تاريخ اجتماعي مضطرب» وليس «طالب شهرة»، كما حاولت الاستخبارات الاميركية الترويج عنه، هو فقط جندي شجاع شاهد فظائع الحروب الأميركية وغطرسة السياسة الخارجية وقرر أن ينبّه العالم وينتقم للشعوب المظلومة. كان عمره 22 سنة فقط، يخدم في العراق، عندما قرر تسريب كافة المعلومات التي يمتلكها عما يجري في كواليس «الحرب على الارهاب». «كنّا مهووسين بملاحقة وتصفية أهداف بشرية مسجلة لدينا على لوائح، ولم نعد نكترث بهدف مهمتنا الاساسي»، قال مانينغ في جلسة محاكمته التمهيدية منذ يومين. لم يحتمل الجندي الآتي من أوكلاهوما الصمت وقرر أن يصرخ بوجه رئيس بلاده ومسؤوليه وزملائه وأهله ورفاق السلاح، وهو مدرك أن العقاب سيكون مرّاً.

فسحة أمله الوحيدة، كما قال، كانت «أن يُفتح نقاش داخلي واسع حول دور الجيش الحقيقي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة الاميركية، كي يعيد الأميركيون النظر في الحاجة وفي الرغبة بشنّ الحرب على الإرهاب وقتل المتمردين». هكذا شرح مانينغ، بهدوء وحسم، خلال الجلسة.
لم تنجح الحروب النفسية ووسائل التعذيب والضغوط التي مارستها السلطات على الجندي خلال ثلاث سنوات من الاعتقال، في ثنيه عن معتقداته. «كنت أعتقد ولا أزال بأن الوثائق التي سرّبتها هي أهمّ وثائق في تاريخنا الحالي»، قال مانينغ أمام القاضية دينيز ليند. يذكر أن الجندي الذي عمل في مجال تحليل المعلومات العسكرية وتخزينها خلال حربي أفغانستان والعراق، سرّب شريط فيديو يظهر استهداف جنود أميركيين يستقلون مروحية مدنيين، بينهم صحافيون وأطفال في بغداد عام 2007، و 250 ألف برقية دبلوماسية، ووثائق عسكرية حول حربي العراق وأفغانستان وغيرها.
لم يفلح مانينغ، حسب اعترافه، بإقناع صحف عريقة مثل «ذي نيويورك تايمز» و«ذي واشنطن بوست» بنشر الداتا التي كانت في حوزته منذ سنوات، ما دفعه الى اللجوء الى موقع «ويكيليكس» والتعاون مع مؤسسه جوليان أسانج، الذي يدفع بدوره ثمن جرأته ويقبع محاصراً اليوم في سفارة الاكوادور في بريطانيا. لم تتجرّأ اذاً الصحافة الاميركية التي تكرس نفسها مدرسة في المهنية والدفاع عن الحريات، على أن تفضح الأكاذيب الموثقة حينها. لم تكن على قدر نبل مانينغ ولا بمستوى شجاعته. وعن البرقيات الدبلوماسية التي هزّت الدول وخصوصاً العالم العربي، ومن بينها لبنان، قال مانينغ إنه «كان واثقاً أنها ستسبب حرجاً للمسؤولين الاميركيين لكنها لن تؤذي البلاد... هي الدليل الأكبر على أننا نحتاج الى دبلوماسية أكبر... ففي النهاية كانت البرقيات بمعظمها ثرثرات بين زُمَر».
اعترف مانينغ بعشر تهم من بين 22 موجهة اليه. لكنه رفض القبول بالتهمة التي تقول إنه «خدم أعداء أميركا وتواطأ معهم». لن يفهم الأميركيون أبداً لماذا فعل مانينغ كل ما فعله. لن ينسى المسؤولون الاميركيون ومن تواطأوا معهم حول العالم حجم الأذى الذي ألحقه بهم. لن يقلّده أحد وسام الشجاعة حتى بعد مماته. لكن من المؤكّد أن ما كشفه للعالم لن يُنسى أبداً.