باريس | يتجه الفرنسيون إلى صناديق الاقتراع غداً، في واحدة من أغرب الاستحقاقات الرئاسية وأكثرها غموضاً، منذ إقرار انتخاب رئيس الجمهورية بالتصويت المباشر، عام 1962. فقبل ساعات قليلة من اختتام الحملة الانتاخبية رسمياً، مساء أمس، بينت آخر الاستطلاعات أن قرابة ثلث الناخبين لم يحسموا خياراتهم بعد. ولا يتعلق الأمر هنا بمقاطعي الانتخابات، التي لا تزال التوقعات ترجح أن يتجاوزوا 30 في المئة، بل بنحو 6 إلى 8 ملايين من «الناخبين المترددين»، الذين سيشاركون في الاقتراع، لكن لم يحددوا بشكل نهائي لمن سيصوِّتون!
وفي سابقة أثارت استغراب المحلّلين، هناك فئة من هؤلاء توصف بالسوبر _ مترددين الذين لن يحسموا خياراتهم إلا وراء الستار، ويقدرون بنحو 14 في المئة من مجموع الناخبين، ما يعني أن مخزوناً ضخماً 4,5 ملايين صوت سيكون رهناً بـ«انطباع اللحظة الأخيرة»، الشيء الذي يلقي على المشهد الانتخابي قدراً غير مسبوق من الغموض. فبالرغم من تقدم المرشحين الرئيسيين، نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند، على باقي المرشحين بقرابة 10 في المئة، إلا أن الحذر غلب على توقعات المحللين؛ لأن هذه النسبة لا تمثل سوى 3,2 ملايين ناخب، وبالتالي بات احتمال حدوث مفاجأة من شأنها أن تقلب الطاولة في الدورة الأولى أمراً وارداً.
وأجمعت استطلاعات الساعات الأخيرة، أمس، على أن الكفة بين ساركوزي وهولاند لا تزال متعادلة بـ 27 في المئة لكل واحد منها. ويحظر القانون الفرنسي نشر أي استطلاعات أو تصريحات للمرشحين، خلال الـ 48 ساعة الأخيرة قبل الاقتراع، لتفادي «التأثير في توجهات الناخبين». لذا يولي المحللون في العادة أهمية كبيرة لاستطلاعات الجمعة الأخيرة قبل الاقتراع، لأنها تعد المؤشر العلني الأخير على آخر تطورات المشهد الانتخابي. وهي التي سمحت، مثلاً، برصد تقدم جان ماري لوبان عن ليونيل جوسبان في انتاخابات 2002.
لكن الاستطلاعات التي أجريت أمس، لم تأت بجديد في ما يتعلق بترجيح الكفة بين ساركوزي وهولاند، لكنها تضمنت مؤشراً مهماً يتمثل في تراجع جان لوك ميلانشون إلى 13 في المئة من 17، خلال الـ 24 ساعة الأخيرة قبل نهاية الحملة الرسمية. وأرجع المعلقون الفرنسيون هذا التراجع إلى النداءات المتعددة التي وجهها أقطاب الحزب الاشتراكي إلى ناخبي اليسار، لدعوتهم إلى التحلي بـ«روح المسؤولية»، لتفادي تكرار سيناريو الانقسام، الذي أدى إلى إقصاء كل مرشحي اليسار، عام 2007. وركَّز هولاند في تجمعاته الانتخابية الأخيرة على دعوة «شعب اليسار»، وفق تعبير مقتبس من خطاب ميتران التاريخي في انتخابات 1981، إلى رص الصفوف واعتماد «الاقتراع المفيد» منذ الدورة الأولى.
لكن الاستطلاعات الأخيرة كشفت عن مفارقة غير متوقعة؛ فالنقاط الأربع التي خسرها ميلانشون لم تصبّ في مصلحة هولاند، كما يُفترض من «الانتخاب اليساري المفيد». ولا يزال المرشح الاشتراكي يراوح عند حدود 27 في المئة، كما كانت عليه الحال منذ أسبوعين، بينما المستفيد من تراجع مرشح «جبهة اليسار» هي اليمينية المتطرّفة مارين لوبان، التي تلقفت تلك النقاط الأربع من ميلانشون لتقفز مجدداً إلى المرتبة الثالثة بـ17 في المئة.
هذه المفارقة سلّطت الضوء أكثر على ظاهرة «الترحال الانتخابي» التي كانت السمة المميزة لهذا الاستحقاق الرئاسي، حيث حلّت مفاهيم جديدة مثل «الوقائية الاقتصادية» و«السياسات السيادية» محل التجاذبات التقليدية على أساس ثنائية اليسار واليمين، الأمر الذي يعتقد المحللون أنه سبّب انتقال بعض الناخبين من تأييد ميلانشون إلى معسكر لوبان. والأرجح أن التصريحات التي أدلى بها ميلانشون أخيراً، تحت ضغط رفاقه في «جبهة اليسار»، بخصوص دعم هولاند بشكل غير مشروط في حال مروره للدورة الثانية، أسهمت في فقدانه بعض قطاعات ناخبي الفئات الشعبية التي ترى في هولاند «واحداً من مرشحي الإستبلشمنت المهمين، ولا تكاد السياسات الاقتصادية التي ينادي بها تختلف عن ساركوزي».
وأفرز صعود مارين لوبان مجدداً مخاوف من انقلاب موازين القوى يميناً؛ إذ يقول برينو جامبار، مدير مركز سبر الآراء الفرنسي «OpinionWay»، إنه «في ضوء هذه التطورات، باتت الأنظار متركزة أكثر على المعسكر اليميني؛ لأن الفارق بين ساركوزي (27 في المئة) ولوبان (17 بالمئة) أصبح أقل من مخزون «الناخبين المترددين»، بينما الفارق بين هولاند (27 في المئة) وميلانشون (13 في المئة) بات شاسعاً، بحيث لم يعد المعطى المجهول المتعلق بأصوات المترددين كافياً لمنع هولاند من المرور إلى الدورة الثانية».
لكن رئيس مركز الدراسات التابع لمعهد العلوم السياسية الفرنسي «Sciences Po»، فينسان تيبرج، له رأي مخالف؛ فهو يرى أن «هذا المجهول المتعلق بالناخبين المترددين في المعادلة الانتخابية يجب عدم النظر إليه من وجهة النظر الحسابية فقط، بل يجب الأخذ في الاعتبار، قبل كل شيء، مدى اتساع أو ضيق دائرة «المقبول سياسياً» بالنسبة إلى كل ناخب». ويضيف: «من المستبعد تماماً أن يقوم ناخب متردد بين التصويت لهولاند أو ميلانشون أو بقية مرشحي اليسار الراديكالي، بانقلاب جذري يؤدي به إلى الاقتراع لساركوزي أو لوبان. والعكس صحيح، حيث لا يمكن أن يقوم من يتردد بين ساركوزي ولوبان بالتصويت لمرشح يساري»، قبل أن يتوقع أن فرانسوا بايرو، الذي عاد لتجاوز عتبة الـ 10 في المئة في الاستطلاعات الأخيرة، سيكون المستفيد الأكبر من أصوات «المترددين»؛ لأن مرشح الوسط هو الوحيد القادر على استقطاب الناقمين على اليمين وعلى اليسار في آن واحد!