إسطنبول | عانى رئيس الحكومة التركية، رجب طيب أروغان، ومن قبله زعيمه الروحي السياسي، قائد حزب «السعادة»، رئيس الحكومة التركية الأسبق نجم الدين أربكان، وكل الإسلاميين، الأمرّين من الإعلام وحملاته العنيفة طيلة حياتهم السياسية. وكان رئيس الحكومة الحالي، ومنذ أن كان مسؤولاً عن تنظيم حزب السلامة الوطني في إسطنبول التي أصبح رئيساً لبلديتها عام 1994، يعاني الأمرين من الحملات الإعلامية التي تستهدفه شخصياً أحياناً كثيرة وتستهدف حزبه.
وكانت جميع وسائل الإعلام التي يملكها رجال الأعمال الكبار المعروف عنهم ارتباطاتهم الاقتصادية والسياسية والعضوية مع واشنطن والمؤسـسة العسكرية، لا تفوّت أي فرصة لشن هجومها التقليدي على أردوغان وزعيمه أربكان، الذي تولى 3 مرات منصب نائب رئيس الوزراء ومرة رئيساً للوزراء في حكومة ائتلافية مع زعيمة حزب «الطريق القويم» تانسو تشيلر نهاية عام 1997.
ولعب الإعلام أيضاً، بالتنسيق مع المؤسسة العسكرية العلمانية، دوراً كبيراً جداً في إسقاط هذه الحكومة في حزيران 1998، حيث تمرد جيل الشباب، ومنه أردوغان ورئيس الجمهورية الحالي عبد الله غول وآخرون، على زعيمهم أربكان بعد أن اتهموه بالخوف والرضوخ لمطالب العسكر آنذاك. وكان لهذا الغضب أو التمرد أهمية تاريخية بالنسبة لمستقبل تركيا، حيث قرر هؤلاء الشباب الانفصال عن حزب الفضيلة الإسلامي، وألّفوا حزباً جديداً سمي «العدالة والتنمية»، الذي وصل إلى السلطة في انتخابات تشرين الثاني 2002، بعد أن تعرضت تركيا لأزمة مالية واقتصادية كادت تؤدي إلى إفلاس الدولة آنذاك.
وترأس عبد الله غول الحكومة الأولى للعدالة والتنمية، لأن أردوغان كان محكوماً عليه بالسجن لمدة عام قضاها وخرج ليصبح زعيماً للعدالة والتنمية ورئيساً للوزراء، بعدما نجح البرلمان الجديد الذي سيطر عليه «العدالة والتنمية» في إجراء تعديلات دستورية وقانونية برّأت أردوغان من جميع جرائمه السابقة التي كانت تمنع عليه ممارسة السياسة وفق الدستور والقوانين.
ولم يتأخر أردوغان، منذ الأيام الأولى لتسلّمه السلطة، في الاستعجال لإحكام سيطرته على جميع مؤسـسات الدولة، بعدما حالفه الحظ، بدعم أميركي وأوروبي، في القضاء على المؤسسة العسكرية التي من دونها بدأ رجال الأعمال الكبار وأصحاب المؤسسات الإعلامية يتراجعون عن مواقفهم السابقة في معاداة أردوغان. ونجح الرجل خلال فترة قصيرة في الحصول على تأييد العديد من الإعلاميين الليبراليين الانتهازيين الذين انحازوا إلى جانب «العدالة والتنمية» في إطار صفقات مادية ومعنوية حققت لهؤلاء الإعلاميين الكثير من المكاسب المباشرة وغير المباشرة.
ولم يكتف أردوغان بهذا القدر من الدعم الإعلامي، فقد استمر بعض الصحافيين بتوجيه انتقادات عنيفة لسياساته الداخلية والخارجية، وهو ما دفع الحكومة لاستصدار العديد من القوانين وإيجاد الكثير من الحجج والمبررات لزج العشرات من الإعلاميين في السجون بحجة تآمرهم على الدولة والحكومة. كذلك استمر أردوغان والحكومة في ضغوطهما على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، طالبين من أصحابها من رجال الأعمال إيقاف العديد من البرامج التي تنتقد الحكومة، وطرد مقدمي هذه البرامج، حيث وصل عدد المطرودين من أمثال هؤلاء إلى العشرات، بعدما رجّح رجال الأعمال من أصحاب المؤسسات الإعلامية مصالحهم مع الحكومة على الديموقراطية التي يؤمنون بها. كذلك لم يتردد هؤلاء في مطالبة كتّاب الزوايا أو رؤساء التحرير بالتخفيف من لهجة انتقاداتهم للحكومة التي أسهمت في خلق المشاكل لأصحاب المؤسـسات الإعلامية مالياً أو إدارياً، باعتبار أن الدولة تستطيع أن تفعل ذلك بكل سهولة. ومن هذه المشاكل إلغاء العقود الموقعة بين الدولة ورجال الأعمال أو عدم إعطاء أي عقود جديدة لهؤلاء، إلا في حال استسلامهم للحكومة التي أقلقت حتى الحليفة واشنطن والعواصم الغربية التي بدأت تتحدث عن مضايقات جدية مباشرة وغير مباشرة للإعلاميين. وذلك على الرغم من أن هذه العواصم لا تريد أن تزعج أردوغان أكثر من اللازم، ولا سيما في هذه المرحلة التي يحتاج فيها الغرب إلى تركيا في موضوع سوريا.
وجاءت مقابلة الرئيس السوري بشار الأسد مع صحيفة «جمهورييت» لتثير جدلاً جديداً في الإعلام التركي والدولي، وخصوصاً بعدما اضطر العديد من الإعلاميين الأتراك الكبار إلى إلغاء زياراتهم لسوريا تحت ضغوط الحكومة التي لا تريد أن يسمع الشعب التركي ما سيقوله الأسد. ولم ينج حتى الإعلام الأميركي والبريطاني من هجوم أردوغان الذي وصف «وول ستريت جورنال» ومن قبلها «نيويورك تايمز» بالصحف الحقيرة لأنها تحدثت عن نشاط الجيش السوري الحر في أنطاكيا، وشكّكتا في أقوال أردوغان ووزير خارجيته أحمد داوود أوغلو في موضوع الطائرة.
وفي الوقت الذي أصبحت فيه معظم وسائل الإعلام، من الصحف والتلفزيونات والإذاعات، وجميعها للقطاع الخاص، ملكاً للمقربين أو الموالين لأردوغان، اضطر الآخرون من رجال الأعمال إلى الانحياز إلى جانب الحكومة مقابل عقود كبيرة مع الدولة. وليبقى الحكم الأخير لأردوغان، يستعد الأخير لإجراء تعديلات دستورية جديدة للحد من حرية الإعلام، حيث يجد الإعلام نفسه بين مطرقة المجلس الأعلى للإعلام الذي يلاحق ويحاسب الإعلام على كل كبيرة وصغيرة، وسندان الموضوعية الإعلامية والالتزام بمبادئ الديموقراطية التي تعني في الوقت نفسه أن يقال للشعب التركي كل ما هو خطأ حتى لو ارتكب ذلك أردوغان الذي يحظى بتأييد 47 في المئة من الشعب التركي. ولكن 53 في المئة منه ضده وضد حزبه وإعلامه الذي يرى الأمور كما يراها أردوغان فقط. ويعرف الجميع أنه انتقم وسينتقم من الإعلام والإعلاميين كما هو انتقم من المؤسسة العسكرية وباقي مؤسـسات الدولة التي كانت ضده فانتصر عليها جميعاً بقدرة إلهية.



نقل أقوال الأسد خيانة


هاجم رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان (الصورة) ووزير خارجيته أحمد داوود أوغلو، الإعلاميين الأتراك الذين نقلوا أقوال الرئيس بشار الأسد لصحيفة «جمهورييت» واتهما هؤلاء بالخيانة الوطنية، بحجة أنهم شكّكوا في الرواية التركية الرسمية في ما يتعلق بالطائرة التركية التي أسقطها السوريون الشهر الماضي.
ولم يكتف أردوغان بذلك، فقد هاجم زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو، قائلاً عنه إنه متحدث رسمي باسم البعث السوري والرئيس بشار الأسد، حاله حال بعض الإعلاميين الذين هاجمهم أردوغان بعبارات وصفات عنيفة جدية. وهو ما فسره البعض أن أردوغان يستعد لحملة جديدة للقضاء على من تبقى من الإعلاميين «الموضوعيين» الذين ينتقدون الحكومة داخلياً وخارحياً، وكأنه يريد للإعلام أجمع أن يكون موالياً له وإلا فسيف الديموقراطية سينزل على رقاب كل من يعترض على أردوغان وحكومته ولم يبق منهم إلاّ القليل ممن خافوا على حياتهم وسط التهديدات التي تستهدفهم بشكل مباشر أو غير مباشر، وتحت وطأة الطرد من العمل، وما دامت جميع كتاباتهم واتصالاتهم الهاتفية والإلكترونية مراقبة من قبل الدولة التي لم تتردد في زج أحد الإعلاميين لأنه كتب كتاباً ينتقد فيه الحكومة التي لم تنتظر حتى نشر الكتاب.