نيويورك | في ساحة «الحرية» (زوكوتي) الكائنة بين مركز التجارة العالمي وحي وول ستريت في مانهاتان التحتا من نيويورك، هناك معتصمون بالمئات وأحياناً بالآلاف، لا يشبهون شباب الشارع العربي في شيء. لكنهم على غرار من سبقهم في ساحات إسبانيا، يعدّون أنفسهم امتداداً لحركات ما بات يعرف بـ«الربيع العربي». تعبير يستخدمه الزعماء الغربيون بكثير من الرومانسية ويستبشرون بحركاته خيراً، غالباً من باب تمنّي أن تهبّ رياحه غرباً نحو أشرعتهم. الزائر لساحة تحرير نيويورك يلاحظ مدى بساطة المتظاهرين والتباين بينهم من حيث المظهر والموقف. منهم الجامعي والفنان الذي يجهد في النأي بنفسه عن السياسة، ومنهم الهيبي والفوضوي أو المطالب بالسماح للفتيات بالسير في الشوارع عاريات الصدور. جماعات المثليين تمثلت في الساحة بلباس وشعارات من نوع «لا يدعوننا نمارس الحب». لكن ما جمع غالبية المتظاهرين والمعتصمين مطلب رئيسي محرّم على الأميركيين الخوض فيه، هو «فصل المال عن السياسة». مطلب يمس صيغة الانتخابات الأميركية وأسلوب اتخاذ القرارات فيها. ففي قبلة الرأسمالية الأولى لا يكاد يصل عضو الكونغرس إلى موقعه من دون المرور بأبواب سماسرة السياسة والمال في تمويل الحملة الانتخابية. وفشل الرئيس باراك أوباما في تحطيم تلك العلاقة التي أدرك أنها أقوى منه.
لذا، لم يغفر رجال الشرطة الذين يحاصرون المكان بسيارات وآليات بأعداد كبيرة، للمتظاهرين اقترابهم من الحي المالي. كان القمع لهم شديداً يوم الأربعاء. ضربوا بالهراوات بقسوة على الظهور واعتُقل متظاهرون مسالمون، إضافة إلى استخدام مواد مسيلة للدموع. وكان يمكن أن تتطور الأمور إلى ما هو أفدح لو أن المتظاهرين لجأوا إلى أساليب العنف. لكنهم كانوا مسالمين إلى أبعد الحدود.
أما السبت الماضي، فقد استُدرج المتظاهرون إلى جسر بروكلين، حيث اعتُقل أكثر من 700 منهم، أفرج عن معظمهم لاحقاً بعد توقيف لساعات أو مبيت في المخافر. جلّ ما حاولوا فعله كان احتلال أرصفة الشوارع بأجسادهم. حاولوا نصب خيم الاعتصام أسوة بميدان التحرير أو ساحة رياض الصلح، لكنهم منعوا؛ لأن القانون يحرم احتلال الساحات العامة. أما ساحة الحرية، التي سُمح لهم بالاعتصام فيها على مضض، فهي تخص شركة تمتلك غالبية الأبنية المحيطة بها، التي تضم، للمفارقة، المصارف والشركات المستهدفة بالتظاهرات. قبلت الشركة بقاءهم، برجاء من رجال الشرطة كي لا ينتشروا في أماكن أخرى.
لم يكن هناك حركات سياسية واضحة تنظم المطالب والخطاب والهتافات. كانت هناك إعلانات في الساحة تطلب متطوعين للتنظيم ولمخاطبة وسائل الإعلام. وهنالك مقعد في الوسط يرفع لافتة من الكرتون كتب عليها «برس»، حيث كان شخص يتحدث لوسائل الإعلام، شارحاً أن المطالب كلها تتركز على استهداف وول ستريت الذي يتحكم بمقدرات البلاد ويحول الوظائف إلى بلدان أخرى. أما المشاركون، فكل منهم رفع رايته وشعاره الخاص. غير أن شعار فصل المال عن السياسة ألهب غضب السلطات وحرّك عنفها. شرح أحد المتظاهرين لـ«الأخبار» أسباب مشاركته قائلاً: «في هذه الدولة الديموقراطية يمكن شراء أعضاء الكونغرس بالمال. لذا، تجد السياسيين يساعدون البنوك بتريليونات الدولارات على حساب الفقراء، ولا يساعدون المريض أو العاطل من العمل أو تلامذة المدارس».
أحدهم وضع قناعاً على شكل رأس خنزير ورفع صورة لرأسمالي يشبه الرئيس أوباما وهو يلتهم الأوراق النقدية كالبوشار. توقف أحد المارة من ذوي الياقات البيضاء عند الجمع في شارع «برودواي» ليحذر المشاركين من أنهم ضحايا لاستغلال اليسار، الذي يريد تغيير النظام. وخاطبهم محذراً في غاية الحنق: «بعملكم هذا، أنتم تنتهكون سيادة البلد كما يرى البعض. نحن لم نعد نعيش في الستينيات»، مذكّراً بحركة الشباب التي عمّت عدة مدن غربية في أواخر الستينيات من القرن الماضي. ردّ عليه أحد المنظمين: «هذه ليست حركة اشتراكية من رأسها إلى قدمها. إنها حركة ترمي إلى تعزيز دور الـ99 في المئة من السكان لتحفيزهم على تولي مسؤولياتهم حيال معيشتهم اليومية، وأنت واحد من هؤلاء».
تجاهل الإعلام الأميركي طويلاً هذه الحركة التي انطلقت، على غرار الثورات العربية، من الإنترنت، وسرعان ما توسعت في عشرات المدن الأميركية شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، بعد استفحال الأزمة الاقتصادية. لكن بعد أحداث الأربعاء والسبت، وعلى أثر انتشارها السريع في المدن الأخرى، كانت وسائل الإعلام في معظمها حاضرة بمئات الكاميرات في ساحة الحرية يوم الخميس.
إنجاز تحقق بفضل القمع الذي جرى، أكثر منه لضخامة الحشود. لكن في الأزمة التي تزداد سخونة عاماً بعد عام منذ تفجرها في أوائل 2008، هناك توقع بأن تتردى الأمور كثيراً قبل أن تعود إلى التحسّن. فالبطالة الحقيقية في الولايات المتحدة قدّرها خبراء الاقتصاد بـ20 في المئة، لا بنحو 10 في المئة كما تشير الإحصاءات الرسمية. وهذا العدد لا يشمل البطالة المقنّعة المتمثلة بخفض ساعات العمل والأجور إلى أقل من النصف. والأرقام الحقيقية لا بد من أن تمسّ مركز الولايات المتحدة المالي والاقتصادي ومن ثم العسكري والسياسي، ويرتد في نهاية المطاف على شركات النفط والسلاح والأمن والمصارف صاحبة الحل والربط. يقبل أعضاء الكونغرس برفع المديونية العامة تريليونات الدولارات، لكنهم لا يقبلون رفع الضريبة على الأثرياء من نسبة 35 في المئة حالياً لحل الأزمة. مع العلم بأن نسبة الضريبة التصاعدية وصلت في الماضي، بعد الحرب العالمية الثانية، إلى 91 في المئة.
المعتصمون، الذين تبدو البراءة التامة «من السياسة» على معظمهم، هم في غالبيتهم من المتأثرين بأزمة البطالة والغلاء المتزايد. لذا، وقف في وسط الساحة العالم الفيزيائي هاري براون، مدير «مؤسسة مشروع فينكس»، وهو برنامج علمي يقوم على مبدأ الاستغناء عن الطاقة الكربونية بكافة أشكالها وتسخير مقدرات البلاد لإنتاج طاقة نظيفة من الطبيعة تعيد التوازن إلى الطبيعة التي تقضي الرأسمالية الجشعة على مقومات استمرارها، وتوفّر ملايين فرص العمل للأميركيين. وقف وسط الساحة حاملاً صوراً وبيانات رافعاً الصوت: «ما تقومون به لا يمس أصحاب المصارف القابعين في مكاتبهم والمحصنين برجال الكونغرس المرتشين. سيقولون عن حركتهم إنكم لا تؤثرون عليهم من قريب أو بعيد».
ونبّه إلى أن التظاهرات وحدها لم تؤت أي نتيجة في وقف الحروب العدوانية في فيتنام والعراق وغيرهما إلا بعد خسارة المعارك العسكرية وسقوط آلاف الضحايا الأميركيين. وناشد الشعب التمرد الدستوري على الحكام، من خلال المبادرة للسيطرة على دوائر الحكومة بتطبيق الفصل الخامس من الدستور الأميركي. وأوضح أن هذا الفصل يقول إن الشعب هو مصدر كل تشريع في كل ما من شأنه التأثير على حياة المواطنين، «وبهذه الخطوة تستطيعون تجاوز الكونغرس وجيشه المؤلف من 35 ألف سمسار سياسي».
بعكس ساحة التغيير في صنعاء أو ميدان التحرير في القاهرة، ليس هناك، ما عدا بعض الأصوات القليلة مثل العالم الأميركي براون، خطاب سياسي وهتافات أو أغانٍ سياسية تعارض الحروب وتربط علاقتها بالفقر والتأخر. أو حديث عن استعادة كرامة شعبية مهدورة رغم قساوة مؤسسات المجتمع الأميركي على الفقراء المحرومين حتى من الطبابة المجانية المتاحة للأوروبيين وللكوبيين الفقراء. كان هناك الكثير من الغيرة على الطبيعة وقلق على مستقبل الكوكب. اقتصرت الشعارات بصورة عامة على المطالب المعيشية والطعن بأصحاب المصارف الجشعين. تفنن الرسامون في شرح كيفية عمل الأخطبوط المالي وسيطرة الفئة القليلة على المال.
لكن نقابات العمال الكبرى ضمت صوتها إلى أصوات المتظاهرين وشاركت مع التلامذة في مسيرة الأربعاء التي استمرت حتى ساعة متقدمة من الليل واتسمت بالعنف والمشاركة الكبيرة. وعُدّ ذلك تحولاً نوعياً في حركة النضال ضد الأغنياء في بلاد الواحد في المئة. وكان بين المتظاهرين موظفون من بلدية نيويورك، الذين يخافون على مستقبل وظائفهم، أو على صناديق تقاعدهم المهددة بالاختفاء جراء مضاربات وول ستريت. بدأت الاعتقالات عند الثامنة من المساء عندما زحف المتظاهرون في اتجاه وول ستريت وافترش بعضهم الأرصفة. وبعد الاعتقالات والضرب بالهراوات تراجعوا إلى ساحة الحرية، المتنفس الوحيد المسموح المكوث فيه. هناك يبيت معتصمون في الساحة منذ 3 أسابيع من دون خيام، تحت رحمة الشمس والمطر، على ما تيسّر من فرش هوائية وألواح إسفنج وأغطية بلاستيكية ومواد عازلة. الموسيقى تصدح في الساحة يقرع طبولها بعض الأفراد من ذوي الاحتياجات الخاصة، في رسالة واضحة للمارة بوجود ضعفاء في هذا المجتمع يستحقون سماع أصواتهم. صورة تتناقض كثيراً مع مشاهد عنف رجال الأمن ومع النصائح التي يسديها الساسة الأميركيون للحكومات العربية بضرورة ترك المتظاهرين يعبّرون عن مواقفهم بحريّة.
الحركة الأميركية، التي بدأت مغمورة، لا يتوقع أحد لها أن تتوقف في القريب، مع احتمال كبير بأن تتسع وتكبر كلما تفاقمت الأزمة المالية المتفشّية، ولا سيما بعدما انتقلت الاعتصامات من نيويورك إلى واشنطن ولوس أنجليس وبوسطن وشيكاغو وفيلادلفيا وميامي وبورتلند، وماين، ومدينة جرسي، وترنتون، وبورتلاند وأوريغون وسياتل ودنفر، إضافة إلى عشرات المدن الأخرى الصغرى التي تشهد حركات تضامنية.



معتقلون في لوس أنجليس


أعلنت شرطة لوس أنجليس أنها اعتقلت، أول من أمس، 11 شخصاً خلال تظاهرة في وسط المدينة، تأييداً للحركة المناهضة لعالم المال والأعمال المتمثل بحي وول ستريت في نيويورك. وقال متحدث باسم شرطة لوس أنجليس إن الأشخاص الـ11 هم ستة رجال وخمسة نساء، اعتقلوا بتهمة التعدي على أملاك الغير لجلوسهم داخل بهو أحد فروع بنك أوف أميركا، وقد أُطلقوا لاحقاً مقابل كفالة مالية بلغت قيمتها خمسة آلاف دولار لكل منهم. وشارك في هذه التظاهرة نحو 500 شخص، وضمت مجموعة تطلق على نفسها اسم حركة «احتلوا لوس أنجليس»، في استعارة لشعار الحركة الاحتجاجية المستمرة ضد حي المال النيويوركي «احتلوا وول ستريت»، وسار في مقدمة التظاهرة مجموعة من الأشخاص رددوا هتافات تطالب المصارف بوقف طرد العائلات وبدفع «حصتها العادلة» من الضرائب وبالمساعدة على إعمار الأحياء الفقيرة.