مع انخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار بنحو 39%، وازدياد وتيرة الطلب على الدولار لأغراض متعدّدة تشمل المضاربة والاستهلاك الشخصي والادّخار المنزلي، خسرت الكتلة النقدية M3-M2 نحو 222 مليون دولار من الودائع بالعملة الأجنبية بين تشرين الأول وتشرين الثاني من عام 2019. انعدام الثقة شكّل أساس هذا النزف المالي، وهو مسار بدأ منذ الفصل الثاني من عام 2019 حين انكسر السعر الثابت لليرة مقابل الدولار، وإن بنسبة محدودة بلغت 5%، فيما أضاع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة فرصة كبح هذا التراجع من الأدوات الأفعل، أي الشفافية والاستخدام الأمثل للاحتياطات بالعملة الأجنبية.في الواقع، إن سعر صرف الليرة هو رأس جبل الجليد فقط. فإلى جانب العجز المتنامي في المالية العامة والذي حتّم البحث عن إيرادات إضافية عبر زيادة الضرائب ومن ضمنها زيادة ضريبة القيمة المضافة وضريبة الواتساب وسواها، تبيّن أيضاً أن الاحتياطات بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان والمصارف في أدنى مستوياتها، ما دفع المصارف، لاحقاً، إلى وقف التسهيلات المصرفية لزبائنها وحدّد مصرف لبنان فائدة خيالية تبلغ 20% لتمويل المصارف بالدولار. وتعزّزت هذه المعطيات بعدما بدأت وكالات التصنيف تحتسب الاحتياطات القابلة للاستعمال والتمييز بينها وبين الاحتياطات الإجمالية التي يعلنها مصرف لبنان. فيتش أشارت إلى عجز في الاحتياطات الصافية بقيمة 32 مليار دولار، ثم أصدرت ستاندر أند بورز تقريراً يشير إلى أن الاحتياطات القابلة للاستعمال تبلغ 19 مليار دولار من ضمنها تقييم الذهب، ثم بدأت تنخفض التقديرات للاحتياطات القابلة للاستعمال إلى أن بلغت ما بين 6 مليارات و9 مليارات دولار.


أنقر على الرسم البياني لتكبيره

رغم ذلك، تمسّك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بعدم الإفصاح عن الرقم الحقيقي للاحتياط والحديث عن احتياطات إجمالية بقيمة 37 مليار دولار، غير أن الأسواق المالية لم تصدقه ما أثار موجة أزمة تمويل استيراد السلع الأساسية: طحين، دواء، ومحروقات. وعلى ضفّة سندات اليوروبوندز، شهدت الأسعار انخفاضاً مقابل ارتفاع في العوائد المدفوعة على السندات. كذلك بدأت الموجة الثانية من انخفاض سعر الليرة أمام الدولار لتصل إلى أقصاها في 28 تشرين الثاني بعد 10 أيام من إعلان جمعية المصارف تدابير مؤقتة بذريعة الأوضاع الاستثنائية تضمنت قيوداً على حركة الأموال وسقفاً أسبوعياً للسحب بالدولار من الحسابات الجارية.
هكذا وبفعل تعامل استنسابي من المصارف التجارية، مضافاً إليه افتقار الشفافية وربما انعدام الخيارات أمام مصرف لبنان، فضلاً عن دعوات فارغة لعدم الهلع تتناقض مع العوامل الموضوعية الحقيقية... كلّها دفعت الناس إلى تشكيل طوابير أمام المصارف لسحب الدولارات النقدية إن استطاعوا، أو الليرة لشراء الدولارات من السوق الموازية وسداد التزاماتهم بالعملات الأجنبية. هذه التشابكات أعادت إلى الأذهان تحذيرات الخبراء على مدى سنوات من أزمة ستعصف بلبنان نتيجة الديون الخارجية وخدمة الدين فضلاً عن العطب في بنية الإنتاج للقطاعات الاقتصادية الحقيقية.
ما بات جلياً أن أوضاع مصرف لبنان والمصارف غير سليمة مالياً، وهذا ينعكس سلباً على الاقتصاد المنهك بدين عام حكومي بلغ 87 مليار دولار (باستثناء ديون مصرف لبنان للمصارف)، ما يثير الكثير من الشكوك حول مصير ودائع اللبنانيين ومصير المصارف ومصير الديون السيادية: فهل على لبنان التخلّف عن سداد ديونه الخارجية؟ أم عليه الاستماع إلى محاولات غولدمان ساكس (التي قد تخفي مصالح خاصة) عن ضرورة الإيفاء بالديون الخارجية وإعادة هيكلة الديون الداخلية؟
المعطيات تشير إلى أن إعادة هيكلة الديون الداخلية ستكون بمثابة انتحار. فمصرف لبنان والمصارف التجارية هي التي تحمل القسم الأكبر من الدين، وميزانياتها متخمة بالخسائر وبمحاولات إخفائها. فعلى سبيل المثال، تظهر ميزانية مصرف لبنان وجود قيد باسم «أصول أخرى» تتضمن، بحسب شرح مصرف لبنان، ما يسمى seigniorage، أي فرق القيمة بين كلفة طباعة العملة وقيمتها الاسمية. رغم هذا الشرح البسيط، إلّا أن هذا البند لا يزال مبهماً بسبب قيمته الهائلة وتقلّباته الكبيرة. فالقواعد المحاسبية تفرض، بهدف المساعدة على اتّخاذ القرارات، أن يتم تحديد القيود وتفسيرها كلّما ارتفعت قيمتها. في المقابل، إن حركة هذا البند منذ عام 2000 لغاية تشرين الثاني 2019، تعيدنا إلى نقطة مفصلية هي 31 تشرين الأول 2015، إذ شهد هذا القيد انخفاضاً مفاجئاً مقابل ارتفاع الأصول الناتجة من عمليات صرف العملة، ثم عادت الأصول الأخرى إلى الارتفاع بوتيرة متسارعة وحادة منذ حزيران 2018. وفي 15 كانون الأول 2019 كانت قيمة هذا البند تبلغ 39901 مليار ليرة (26.4 مليار دولار)، لكنه انخفض إلى 37627 مليار ليرة (24.9 مليار دولار) في 31 كانون الأول 2019، أي بانخفاض قيمته 2274 مليار ليرة (1.5 مليار دولار) خلال 15 يوماً فقط.
واللافت أن هذا القيد شهد ارتفاعاً بنسبة 100% خلال عام واحد فقط، والأرجح أنه يشمل العمليات الآتية:
- تمويل عجز الخزينة بالدولار وتسجيلها كمستحقات في باب الأصول في ميزانية مصرف لبنان بدل تآكل احتياطات الدولار.
- طباعة مزيد من الليرة.
- قد يستعمل هذا الحساب لإغلاق بعض الخسائر عبر قيد مدين crediting other assets ما يخلق سرابية في المعلومات المالية المقدمة.
أيا كانت النتيجة، فإنّ هذا القيد يحتاج إلى بيان وشفافية ووضوح تغيب عن مصرف لبنان الذي يمتنع منذ 15 عاماً عن إصدار بيانات الربح والخسارة.
كذلك، من اللافت أن الميزانية المجمّعة للمصارف ازدادت بنسبة 9% بين عامي 2016 و2019. أحد مصادر الزيادة الأساسية تكمن في بند «ودائع المصارف لدى مصرف لبنان»، مقابل تقلّص المطلوبات على القطاع الخاص (القروض). هذا يعني أن المصارف فضّلت توظيف الأموال في الأرباح السهلة التي يدفعها مصرف لبنان مقابل قيام باستقطاب الدولارات لاستعمالها في تغطية تمويل الدين العام وتغطية الاستيراد وسائر الحاجات التمويلية بالدولار مهما كان شكلها. هكذا بات 70% من أموال المصارف موظّفة لدى مصرف لبنان ما أدى إلى شحن الأصول بمستوى مخاطر مرتفعة بعضها ناتج عن الآتي:
ــ انخفاض سعر الليرة وبالتالي انعكاس ذلك على كلّ ودائع البنوك الليرة لدى مصرف لبنان من ناحية قيمتها الفعلية
ــ تدهور أسعار اليوروبوندز.
ــ ارتفاع المطلوبات على المصارف بالدولار وانخفاض قيمة الأصول بالليرة يؤدّيان إلى فرضية راجحة بأن - صافي الأصول أصبح سالباً negative net worth. والسبب أن أكثر من 70% من أصول المصارف هي ودائع لدى مصرف لبنان ودين حكومي وقيمتها تنخفض عبر عوامل منها: انخفاض قيمة الليرة، انخفاض أسعار اليوروبوندز في الأسواق، التعثّر التقني من مصرف لبنان بشأن شهادات الايداع، وهذا يؤشّر إلى عدم وجود دولارات لدى مصرف لبنان ويعكس احتمالات أكبر للتعثّر وضعف القدرة على إيفاء التزاماته بالدولار تجاه المصارف.
وبالعودة إلى الآراء بشأن الإيفاء بالدين العام أو التخلف عنه فإنها تتوزّع على الشكل التالي:
1 - واحدة تنظر بريبة إلى مندرجات التخلّف وما تعنيه من صعوبة الحصول على التمويل بالعملة الأجنبية مستقبلاً، كما أن إصدارات اليوروندز تحتاج إلى تصويت 75% من حملة كلّ فئة منها نتيجة قصور قانوني من الطرف اللبناني عند الإصدار وعدم وجود collective action clause، وهو ما يزيد تعقيد الأمور.
2 - النظرة الثانية تقول إن الديون الخارجية لا تستأهل التخلف السيادي عنها والدخول في مغامرة في أسواق رأس المال العالمية مستقبلاً.
3 - نظرة تدفع باتّجاه حصول توقف عن الدفع ومفاوضة حملة الدين مرة واحدة.
حتى الآن لم يرد موقف رسمي على التساؤلات وإن كان مصرف لبنان سدّد استحقاقات تشرين الثاني الماضي من دون أن تتضح الصورة تجاه استحقاقات 2020.
خلاصة القول، المطلوب إجراءات عاجلة لا بدّ أن تكون مبنية على شفافية الأرقام لدى مصرف لبنان والمصارف لأنّ الحلول التفصيلية لا بدّ أن تنطلق من تحديد حجم المشكلة، بعيداً عن عمليات التجميل لبنود الميزانيات. فالحلول يترتب عنها كلفة وألم فيما تتركّز القضية اليوم على توزيع الآلام. حتى اليوم، المودعون هم من يدفعون الثمن، فمتى يعاد النظر وتصوّب البوصلة لتحميل المستفيد الأكبر النسبة الأكبر من الخسارة لإعادة إطلاق الاقتصاد وفق رؤية بنيوية جديدة تجعل منه اقتصاداً منتجاً لا ريعياً؟