يصعب توصيف هول الكارثة التي حلّت في بيروت الثلاثاء الماضي أو استيعاب أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بسهولة. قد يتطلّب الأمر مضي أسابيع حتى تتلاشى حالة الصدمة. ولا يمكن حسم السيناريو الذي أدّى إلى هذه الكارثة المهولة قبل اختتام التحقيقات. لكن المحسوم والأكيد، إلى الآن، أن المنظومة البيروقراطية الرسمية في لبنان هي العامل المؤسّس لهذه الكارثة. فما نُشر من تقصيّات صحافية، وما رشح حتى الآن عن التحقيقات الرسمية، يُظهر أن هذه المنظومة مسؤولة عن الفشل في التعامل (لجهة الطريقة والموقع والصيانة والتخزين وآليات التخلّص أو التلف) مع كمية هائلة من مادّة شديدة الخطورة. هذا في أقل تقدير، وقد تُظهر التحقيقات ما هو أسوأ.
البنية التحتية المعطوبة
في المبدأ لا يمكن الحديث عن المنظومة البيروقراطية الرسمية في أي كيان سياسي يطمح أهله بأن يُصنّف دولة، من دون الاطلاع على بيئة الكيان السياسي وتناسبها مع بناء منظومة بيروقراطية حديثة سليمة.
في كتابهما «قوانين للعالم»، يقول مايكل بارنيت ومارثا فينمور، أنّه يتم تعريف البيروقراطية الحديثة بأربع سمات رئيسية:
السمة الأولى هي التسلسل الهرمي، حيث إن لكل مسؤول مجالاً واضحاً من الكفاءة ضمن تقسيم العمل، وهو مسؤول أمام رؤسائه.
السمة الثانية هي الاستمرارية، لأن للمنصب هيكلية راتب، ويكون بدوام كامل، ويوفر إمكانية التقدّم الوظيفي المنتظم.
السمة الثالثة هي التناسق، فالعمل يتم ضمن مجموعة قواعد مقررة مسبقاَ، وضمن إجراءات التشغيل التي تحيّد التأثيرات الاعتباطية والمسيّسة.
السمة الرابعة هي الكفاءة والخبرة، فاختيار المسؤولين يتم وفقاً للجدارة، ويتم تدريبهم على وظائفهم وعلى التحكم في الوصول إلى المعرفة المخزنة في الملفات.
في ظل هذه السمات تقسّم المنظومة البيروقراطية المشاكل إلى مهام قابلة للإدارة وذات طابع متكرّر. وهذه المهام تُخصَّص لمناصب معينة ويجري تنسيقها تحت قيادة هرمية. في هذا الإطار تفتقد المنظومة البيروقراطية اللبنانية إلى السمتين الثالثة والرابعة. فأي متابع لتفاصيل الحياة العامة اللبنانية يعرف مدى قابلية هذه المنظومة لأخذ قرارات سياسية واعتباطية تكون قانونية ومتوافقة مع القواعد أيضاً. أمّا لجهة الكفاءة والخبرة، فلا حاجة لشرح ابتلاءات المنظومة البيروقراطية اللبنانية بغيابها منذ تأسيس الكيان إلى اليوم. لذا يمكننا منذ البداية القول إن المنظومة البيروقراطية اللبنانية معطوبة. ولكن هذه ليست كل الحكاية.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

فالمنظومة البيروقراطية تتّبع، ومع الوقت تُرسي، مجموعة من القواعد التي تترك آثاراً متنوعة، كما يقول بارنيت وفينمور. أوّل أثر ناتج من هذه القواعد، هو الإجراءات المفروضة على الجهات الفاعلة داخل وخارج المنظومة. داخلياً، القواعد البيروقراطية هي إجراءات التشغيل القياسية التي تسمح للمنظومة بالاستجابة بشكل أكثر كفاءة ومتوقع لمطالب البيئة المحيطة بها.
وثاني أثر يتعلق بما تتيحه هذه القواعد للبيروقراطيين لجهة تحديد البيئة المحيطة بهم وإدراك المشاكل التي يواجهونها وتقسيم البيئة إلى مستويات وتصنيفات.
وثالث أثر، أن البيروقراطيين يستخدمون قواعدهم للمساعدة في إنشاء أو تشكيل البيئة الاجتماعية. وهم يميلون إلى ذلك بطرق تجعلها عرضة للتدخل من قبل البيروقراطيين أنفسهم. أخيراً، يمكن أن تكون القواعد مكوّنة للهوية، خاصةً هوية المنظومة.
في المحصّلة، إن قواعد المنظومة البيروقراطية تشكّل أنشطتها وتفاهماتها وهويتها وممارساتها، أي أنها تخلق ثقافة تنتج حلولاً، ثم تمأسسها باعتبارها قواعد وطقوساً وقيماً للمجموعة أو المنظومة. وكل المنظومات البيروقراطية تطوّر ثقافات متميزة عن البيئة التي تندمج فيها. وهي تعتمد دائماً على عناصر مرتبطة بالمعايير المهنية ومتطلبات الشرعية التي يفرضها المجتمع الأكبر. بمعنى آخر، إن الثقافة البيروقراطية توجّه العمل لكنها لا تحدّده.
ونظرة البيروقراطيين للبيئة المحيطة بهم تتشكّل من قواعد وروتينات تحدّد مهامهم الاجتماعية، وترسم اهتماماتهم، وتوجههم بطرق مماثلة نحو البيئة. إنهم يقومون بأكثر من تفعيل العقلانية المقيّدة؛ فعقلانيتهم التي تدفع الوسائل والغايات التي يقدّرونها، هي بدورها تتشكل من الثقافة البيروقراطية نفسها.
إذا أردنا أن نقارن هذا الشرح، بالثقافة البيروقراطية في المنظومة اللبنانية والقواعد التي تحدّدها، سنجد أن الأخيرة لا تسمح بالعمل بكفاءة ولا تنتج بيروقراطيين يجيدون تصنيف المشاكل والبيئة المحيطة بهم، بينما مساهمتهم في تشكيل البيئة الاجتماعية المحيطة بهم سلبية باعثة للتنافر مع هياكل الدولة. باختصار، إن الثقافة البيروقراطية اللبنانية ثقافة سامّة، بينما المنظومة بحدّ ذاتها منظومة عبثيّة.
رغم أن بارنيت وفينمور تحدثا عن أن المنظومة البيروقراطية تطوّر ثقافة متميزة عن البيئة التي تندمج فيها، إلا أنهما أوضحا أيضاً أنّ الثقافة البيروقراطية تعتمد على متطلّبات الشرعية التي يفرضها المجتمع الأكبر؛ وهنا يكمن أصل المشكلة.

المشكلة في الكيان
عندما تشكّل النموذج الذي بُني عليه الكيان اللبناني في عام 1920 جاء من تزاوج عاملين؛ الأول هو مصالح احتكارية نشأت بسبب انفتاح واندماج السواحل السورية مع الأسواق الغربية الرأسمالية في القرن الثامن عشر. والثاني مرتبط بشكل عضوي بالأول، وهو بناء الوعي والحدود السياسيين للطوائف اللبنانية واحدة تلو الأخرى (بداية مع الموارنة)، ليتحوّل أبناء جبل لبنان من أبناء عشائر ذوي انتماء ديني إلى رعايا طوائف. كذلك تحوّل سادة العشائر إلى زعماء لها. ثم أصبحت الضرائب التي يجبيها زعماء العشائر نيابة عن العثمانيين، حقّاً مكرّساً مخصّصاً لزعماء الطوائف.
هكذا، كان النموذج يتحرّك ويستمرّ من خلال عملية جدلية من قطبين: طوائف تحمي الاحتكارات (سواء أكانت تجارية مع الخارج أم ضرائب محليّة)، ومموّليها. كلّ طائفة تتجنّد للدفاع عن احتكارات ثم تمتلكها مع الوقت. هذا النموذج أُسقط على الكيان الذي اقتطعه الفرنسيون وسمّوه لبنان. ومع الوقت تركّزت الاحتكارات التجارية الأجنبية وتحوّلت القيمة المضافة منها إلى رؤوس الأموال التي أسّست المصارف وهيمنت على الاقتصاد لا سيما بعد عام 1992. أمّا زعماء الطوائف فاحتفظوا بحقّهم بالحصص من احتكارات الضرائب على شكل حصص في المال العام سواء عبر الانتفاع أو النهب أو التوظيفات داخل القطاع العام.
ولأن الدولة بتعريفها الأوسع هي التنظيم السياسي للمجتمع أو الجسم السياسي الذي يتفق عليه الأفراد لتسوية المنازعات بينهم عبر ما يصبح قوانين، بات يمكن إسباغ لقب الدولة على الكيان اللبناني. إلا أن الدولة تتميّز عن غيرها من الفئات الاجتماعية من خلال غرضها، وهو إقامة النظام والأمن ضمن حدودها الجغرافية، أي سيادتها. وهذا ما نعلم أن الدولة اللبنانية مستقيلة منه، لا بل حلّت فئات اجتماعية أخرى مكانها في سبيل الحفاظ عليه. بينما بعض التدقيق والمراجعة سيكشف أن الغرض الحقيقي للدولة اللبنانية هو ضمان سلاسة سير النموذج وتنظيم ورعاية العلاقة بين الطوائف واحتكاراتها ضمن قوانين معاصرة بالشكل.
لكن بالنسبة إلى عموم اللبنانيين دور الدولة عبثيّ، ولا يخدمهم سوى في الحدّ الأدنى الذي يسمح باستمرار تدفق الأموال لزعماء الطوائف عبر الاحتكارات المتنوّعة. هو كيان يخدم نموذجاً عبثياً منذ تأسيسه. هو كيان عبثيّ بكل بناه الفوقية (النخب السياسية) والتحتية (المنظومة البيروقراطية)، ومنه تنبثق شرعية اجتماعية لمنظومة بيروقراطية عبثيّة.

حتى لا تبقى العبثية مساراً
اللبنانيون يلمسون عبثية الكيان في حياتهم اليومية وليس في الأسبوع الماضي فقط، سواء في البنى التحتية المهترئة والخدمات العامة المتفلّتة. وهم يعيشون في نظام اقتصادي أوهمهم بالرفاهية على مدى عقدين بينما زعماء الطوائف واحتكاراتهم (على شكل مصارف) يمعنون الغرف من المال العام. يعيشون العبثية من دون أن يعرفوا أن سببها هو أن هناك من قرّر في عام 1920 أن يرتقي بالنموذج من إدارة ذاتية عبثيّة إلى كيان عبثي «مستقل».
العبثيّة تمظهرت في تخلّي الدولة عن دورها في الدفاع عن اللبنانيين الجنوبيين منذ عام 1948 حتى اليوم، وفي السياق الذي أدّى إلى الحرب الأهلية اللبنانية وفي مسار الحرب ذاتها. كذلك تمظهرت في سياسات رفيق الحريري التي قضت على الإنتاج الصناعي والزراعي القليل أساساً، وحكمت بتوسيع الاحتكارات عبر المصارف، وفي سياسات حاكم مصرف لبنان. وقمة العبثية كانت إدارة الحاكم للأزمة منذ عام 2016 ما فاقم حجمها وتبعاتها. أيضاً تمظهرت هذه العبثية في الإصرار على الاستمرار في دفع سندات الخزينة واليوروبوندز حتى آخر نفس، وهي تتمظهر يومياً في الأحزاب اللبنانية وطريقة خوضها الحياة السياسية، وفي تحركات وشعارات الشخصيات السياسية، من بيروقراطيين سابقين وربائب تنظيمات المجتمع المدني، التي تحاول أن تدخل نادي السلطة على ظهر معاناة اللبنانيين منذ عام 2015. يومياً تتمظهر هذه العبثية في أداء الأجهزة الأمنية والقوى المسلّحة اللبنانية بلا استثناء. حتى إنها تتمظهر في أداء الاحتكارات الاقتصادية، وعلى رأسها المصارف، التي أمعنت ولا تزال تمعن في تدمير ما تبقى من اقتصاد كليّ وكأنها تهدم المعبد على رأسها. وتتمظهر العبثية في إصرار الطوائف وزعمائها الروحيين والسياسيين على الحفاظ على المصارف على قيد الحياة رغم موتها السريري. وعلى امتداد المئة عام من تاريخ هذا الكيان العبثي، قد تكون المقاومة هي الشيء الوحيد غير العبثي، فهي الإطار الاجتماعي الوظيفي الوحيد الذي أدّى وظيفته بكفاءة عالية حتى خارج الحرب (إعادة اعمار الضاحية مثال يُضرب عالمياً لكيفية إعادة إعمار منطقة منكوبة بفعالية عالية من دون سيطرة رأس المال على العملية ومخرجاتها).
في الرابع من آب 2020 تركّزت كلّ عبثية الكيان اللبناني لتنفجر في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت وتدمّر نصف المدينة ومعها المرفأ، وتقتل المئات وتجرح الآلاف وتشرّد مئات الآلاف. انفجر العنبر رقم 12 بعد سنوات من الفشل المنظوماتي البيروقراطي (هذا الذي نعرفه حتى الآن وقد يكون ما سيتكشّف أعظم)، ليعلن نهاية الكيان العبثي


سيذكر التاريخ أنه في الرابع من آب من عام 2020، وفي تمام الساعة السادسة وثمان دقائق، تركّزت كلّ عبثية الكيان اللبناني لتنفجر في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت وتدمّر نصف المدينة ومعها المرفأ، وتقتل المئات وتجرح الآلاف وتشرّد مئات الآلاف. انفجر العنبر رقم 12 بعد سنوات من الفشل المنظوماتي البيروقراطي (هذا الذي نعرفه حتى الآن وقد يكون ما سيتكشّف أعظم)، ليعلن نهاية الكيان العبثي. بداية النهاية كانت مع إعلان الحكومة الحالية التوقف عن دفع اليوروبوندز، لما لهذا القرار من تبعات على تركّز رأس المال المتمثل في المصارف، والناتج من احتكارات الطوائف، لكن ما حصل في مرفأ بيروت دمّر مركز الكيان العبثي وأظهر أبهى حلل عبثيّته، ولم يعد ممكناً التعايش مع مسرحية إبقائه على قيد الحياة. ما هو الطريق إلى الأمام؟ إمّا أن يتفتت الكيان إلى مجموعة كيانات عبثية صغيرة، أو أن يقرر اللبنانيون أن يسألوا أنفسهم الأسئلة الصعبة. أسئلة من نوع ما هي وظيفة الكيان اللبناني تجاه سكانه؟ ما هي وظيفته الاقتصادية والسياسية في الإقليم؟ يجب ألّا يقبلوا بإجابات على شكل تلك التي اخترعها مؤرّخو النموذج - الكيان لضمان استمراره، مثل «صلة الوصل الاقتصادية بين الشرق والغرب» و«الكيان العربي الطابع والغربي الهوى». فكل هذا كان جزءاً من العبثية أيضاً.