ابتداءً من تشرين الثاني 2019، تحوّلت المصارف إلى مجموعة «صندوقجية» لا وظيفة لها سوى إدارة عمل صناديقها، واتخاذ قرارات لتسوية الدفاتر محاسبياً. هذه الوظائف هي الوحيدة المتوافرة حالياً لهذه المصارف، ولا يمكن إسناد أي دور آخر لها سواء بسبب انعدام كفاءتها الذي أوصلها إلى الحال الراهنة من «الزومبي» وسحب معه ودائع الناس رهينة، أو بسبب الحقيقة التي لا يتقبّلها المصرفيون وهو أنه لم تعد لديهم الموارد للعمل، لا ثقة الزبائن متوافرة، ولا أموال جديدة يمكن إقراضها في السوق، ولا عملة جديدة يقبل السوق أن يتداول بها. باختصار لم يعد بإمكان المصارف القيام بدور الوساطة المالية. حالياً الدور الوحيد المطلوب منها، والذي رسمه لها مصرف لبنان للقيام به هو إدارة الصناديق وفق سعر الصرف الذي يحدّده هو والذي من شأنه تقليص الخسائر بالدولار.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

ما المقصود بالخسائر بالدولار؟ هي الدولارات التي استقطبتها المصارف من الزبائن مقابل فوائد مغرية، ثم وظّفتها لدى مصرف لبنان مقابل هوامش من الفائدة مغرية أيضاً. أما مصرف لبنان فقد أنفق هذه الدولارات من أجل تمويل عمليات تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وتمويل العمليات التجارية مع الخارج، وتمويل التحويلات إلى الخارج بجميع أشكالها مثل تحويلات العاملين الأجانب في لبنان، وتحويلات الأرباح المصرفية وتحويلات... بمعنى أوضح، اللبنانيون كانت لديهم قدرات شرائية تتيح لهم الحصول على السلع المستوردة بأقل من قيمتها الفعلية لو كان سعر الصرف متحرّكاً، فاشتروا السلع الغذائية والملابس الفاخرة، وسافروا إلى الخارج للترفيه والسياحة، واستوردوا سيارات رباعية فخمة. كذلك اشترينا فيول أويل، وبنزين، ومازوت، وآلاف السلع والخدمات بسعر صرف ثابت. كيف كنّا ندفع ثمن هذه السلع والخدمات؟ بالدولار الآتي من الخارج، سواء من المغتربين، أو من الاستثمارات الأجنبية على سبيل المثال. كلما أنفقنا دولارات أكثر، أصبحنا بحاجة إلى استقطاب إضافي لودائع جديدة لتغطية الودائع القديمة التي تبخّرت. التبخّر بالدولارات لا يعني أن هذه الأموال اختفت، إنما هو يشير إلى أن هذه الأموال لم يعد يقابلها سوى أصول محلية غير قابلة للاستعمال الخارجي، وبالتالي لا يمكن تقييمها بالدولار، إنما كنّا نعيش وهماً اسمه «الدولار المحلي» الثابت السعر مقابل الدولار الطازج.
الفرق بين موجودات المصارف بالدولار، وبين التزاماتها بالدولار، هي بجزء كبير منها تُعدّ خسائر، وهي موظّفة أيضاً بجزء كبير منها لدى مصرف لبنان. فالمصارف كانت تعيد توظيف الودائع التي أتت من الخارج، لدى مصرف لبنان. القسم القليل من هذه الأموال جرى توظيفه في الاقتصاد، أي إقراضه للقطاعات الاقتصادية. حتى إن جزءاً كبيراً مما أُقرض كان يصبّ في القطاعات العقارية أو الديون المكفولة بضمانات عقارية. بمعنى ما، كانت غالبية عمليات الإقراض معتمدة على أسعار العقارات. نفخ القيم العقارية، كان فيه مصلحة للمقترض للحصول على مبلغ أكبر، وفيه مصلحة للمصارف للحصول على نسبة تغطية أعلى. لا جدال في أن هذا المسار كان قائماً، ولا يزال. ففي عزّ الانهيار الحاصل اليوم، المصارف هي أبرز مستحوذ على العقارات المعروضة للبيع في السوق، وهي العارض الأكبر لمخزون العقارات المتاح. المصارف تستحوذ على العقارات استيفاء لديون الزبائن على أساس تسعير بالدولار المحلي، وتعرضها للبيع بسعر أعلى وبشرط أن يكون التسديد بالدولار النقدي أو ما يسمى «الفريش».
هذا المسار هو جزء مما تقوم به في إطار مهمتها الثانية: تسوية الدفاتر محاسبياً. المهمة الأولى تولاها مصرف لبنان عندما خلق أسعار صرف مختلفة وأتاح سحب الودائع على سعر لا يتجاوز 3900 ليرة مقابل الدولار الواحد. هذه العملية تتيح له تقليص الموازنات المصرفية، والخسائر بنحو 5 مليارات دولار سنوياً. وبالتالي، فإنه لا يقع على عاتق المصارف سوى تسديد الأموال بالليرة للمودع، وقبض الأموال منه عند تسديد دفعات قروضه. لا تسليفات جديدة، ولا توظيفات جديدة... لا دور لأي مصرف حالياً في الاقتصاد. فالمصارف لا تعمل حالياً سوى للتحصيل. الديون العالقة. الديون المتعثّرة. الديون غير المصنّفة. ثمة الكثير من الحسابات التي تسعى المصارف، في إطار المهمة الثانية، لمنع تصنيفها على دفاترها كقروض متعثّرة وإبقائها كديون عاملة من خلال إعادة جدولتها، أو لتسويتها من خلال إتاحة تسديدها بشيكات مصرفية بالدولار. الوقاحة بلغت أن المصارف باتت تطلب الشيكات المصرفية مقابل الديون، لا أنها باتت تسحب من حسابات ادخار الزبائن أموالاً لتسديد دفعات متأخرة، رغم أن هذه القروض مقابلها ضمانات ولم يسمح صاحب الحساب بسحب مدّخراته التي قد تكون آخر مصدر للاستمرار بالحياة، ومن دون أي مقدّمات قانونية.
هكذا تصبح إعادة هيكلة النظام المصرفي، أمراً ضرورياً ومهماً بعكس الكلام السائد عن إعادة هيكلة المصارف المفلسة نفسها. المهم إعادة هيكلة بنية النظام المصرفي وفق حاجات المجتمع والاقتصاد. لبنان بحاجة إلى مصارف جديدة، وعملة جديدة وذلك لن يحصل قبل أن يحدّد أي اقتصاد يريد.