يتعلق التعليم ببناء الدولة وتشكيل المجتمع والتنمية الاقتصادية وكلها مواضيع أساسية في العمل السياسي. ومن سمات النظام التعليمي في لبنان، أنه نظام مبني على الفرز الطائفي والطبقي أيضاً، إذ ترتبط الكثير من المدارس والجامعات الخاصة بإرساليات أجنبية أو بطوائف ومذاهب (وحتى بأحزاب طائفية). ويتم تحديد أقساطها لتتلاءم مع كل طبقة اجتماعية. ففي مقابل ضعف دور التعليم الرسمي، تعاظمت أهمية القطاع الخاص حيث ترتبط المناهج البحثية والتعليمية في هذه المؤسّسات، ومخرجاتها، بالحاجات الاقتصادية لبلدان المهجر وليس بالسوق المحلية. الانتماء إلى هذه المؤسسات الخاصة يتحدّد من الطلب بناء على إمكانات الأسر المادية، وإلى جانب ذلك تكون الشهادة الجامعية مؤشراً على المرتبة الاجتماعية.
طغيان الخاص على العام
في لبنان أُعطيت أهمية نسبية للتعليم الخاص، تظهر بشكل واضح في المدارس والجامعات وبدرجة أقلّ في التعليم المهني. فرغم أن نسبة المدارس الرسمية تبلغ 44% من مجموع عدد المدارس، إلا أنها تستوعب فقط 32% من عدد التلاميذ البالغ 1.073.000 في مقابل 68% يتعلّمون في القطاع الخاص. وقد تراوحت نسب النجاح في المدارس الخاصة بين 75% و94% مقابل ما بين 62% و83% في المدارس الرسمية، علماً أنه لا يمكن حسم أسباب ارتفاع نسبة النجاح بشكل عام، لأنها عائدة إلى جودة التعليم أو إلى سهولة الامتحانات وانتشار الغشّ. ويستوعب التعليم المهني الرسمي 50597 طالباً يتوزّعون على 154 مدرسة ومعهد مهني وتقني ويمثّلون 61% من مجمل التلامذة المهنيين، مقابل 32449 طالباً يتوزّعون على 231 مدرسة ومعهد مهني خاص. ولا يوجد سوى جامعة حكومية واحدة هي الجامعة اللبنانية التي تفرّعت منذ الحرب الأهلية إلى الآن تلبية لحاجات المناطق ولرغبات الطوائف والمذاهب، وفيها 79360 طالباً وطالبة، أي ما نسبته 38% من مجمل الطلاب الجامعيين، وهي تتألف من 19 كلية ومعهد و65 فرعاً. في المقابل، يبلغ عدد الجامعات الخاصة 48 جامعة ومعهد عدد طلابها 131360، أو ما نسبته 62%.

انقر على الجدول لتكبيره


جذور طائفية
ما زالت الإرساليات الأجنبية تلعب دوراً مهماً في التعليم والتربية في لبنان وتشكيل النخب، ولا سيما الإرساليات المسيحية، وتلك التي أقامتها الطوائف الأخرى لاحقاً. قبل القرن التاسع عشر، أتت مجموعة كبيرة من الإرساليات، ثم تحت الحكم العثماني أصبحت الأقليات في لبنان موضع اهتمام غربي ساعد في توافد الإرساليات التبشيرية سواء كانت كاثوليكية أو بروتستانتينية أتت من فرنسا وإيطاليا وأميركا وبريطانيا وألمانيا والنمسا. اقترن التبشير بإقامة مؤسّسات تعليمية ما زالت بغالبيتها قائمة إلى الآن، وهي ما زالت تلعب دوراً شديد الأهمية في تشكيل النخب.

بالأرقام

771
مليون شاب وراشد يفتقدون إلى المهارات الأساسية للإلمام بالقراءة والكتابة ثلثهم من النساء


70%
من بلدان العالم تخصّص للتعليم أقل من 4% من الناتج المحلي الإجمالي


222
مليون طفل وشاب في عمر الالتحاق بالمدرسة متأثرون بالأزمات على صعيد العالم


50%
من المناهج الدراسية التي جرى تحليلها في 100 بلد لا تأتي على ذكر تغير المناخ


69
مليون معلّم يجب توظيفهم من أجل تعميم التعليم الابتدائي والثانوي بحلول عام 2030


في عام 1798 تأسّست مدرسة «عين ورقة» بعدما جرى تحويل دير مار أنطونيوس إلى مدرسة إكليريكية بطريركية سُمّيت أم المدارس في الشرق، وهي بمثابة أول مؤسّسة تربوية في لبنان تقدم التعليم المجاني للتلاميذ بفضل تخصيص أرزاق دير مار أنطونيوس لهذه الغاية. كما أنشأ الآباء اللعازاريون في عام 1834 المدرسة الكاثوليكية وأصبحت معهداً والتي سمّيت مدرسة عينطورة. وبادرت طائفة البروتستانت إلى إنشاء «الجامعة الأميركية» في عام 1866. عُرفت عند افتتاحها باسم «الكلية السورية الإنجيلية» وجرى تمويلها من بريطانيا وأميركا، علماً أن مؤسّسها دانيال بليس حصل على ترخيص بافتتاحها في لبنان من ولاية نيويورك واستحصل على إذن العمل من الدولة العثمانية مع إعفائه من الضرائب. وأنشأ اليسوعيون كلية اللاهوت والمكتبة الشرقية «الجامعة اليسوعية» في عام 1875، ثم في عام 1883 افتتحوا معهداً للطب تحوّل إلى كليّة للطب والصيدلة. كذلك تأسّست كلية بيروت للبنات في عام 1832.
وفي عام 1895، أحصيت في لبنان نحو 330 مدرسة موزّعة على أكثر من ألف قرية في أنحاء متصرفية جبل لبنان. سبب هذا الانتشار، أن الدولة العثمانية نظّمت التعليم في بلاد الشام وأصدرت نظاماً خاصاً ساهم في افتتاح مدارس متفاوتة الأهمية. هكذا ظهرت مدرسة الشويفات الدولية (أعتقد أن لها جذور إنجيلية) في عام 1886 بفضل امرأة إيرلندية كانت تعيش في لبنان، ثم توارثها مربّون طموحون وافتتحوا لها فروعاً في دول خليجية ومصر والأردن والعراق وكردستان وإنكلترا وأميركا وألمانيا وباكستان. كما ظهرت مدرسة الفرير في عام 1886 في طرابلس من قبل ثلاثة إخوة رهبان قدموا من الإسكندرية، وأيضاً مدرسة زهرة الإحسان التي أسّسها الأرثوذكس في منطقة الأشرفية عام 1881 (السيدة فضيلة سرسق ومعها الراهبة مريم جهشان). وهي أول معهد أرثوذكسي للإناث في لبنان يعلم اللغات العربية والفرنسية والإنكليزية ومبادئ اللغتين اليونانية والروسية.
وفي عام 1950 تأسّست في الكسليك جامعة الروح القدرس، وبعد عشر سنوات تأسست جامعة بيروت العربية بنتيجة المدّ القومي العربي المتصاعد. وعلى وقع إضرابات ومطالبات ونضال حثيث لإنشاء مؤسّسة جامعية شبه مجانية ولدت النواة الأولى لـ«الجامعة اللبنانية» في 1951. أما في النصف الثاني من الثمانينيات (1987)، تأسّست جامعة سيدة اللويزة وهي كاثوليكية، بينما تأسست جامعة في 1988 وهي أرثوذوكسية ويشرف عليها دير البلمند.
الجذور الإسلامية للمدارس موجودة أيضاً وإن لم تكن تسبق الإرساليات المسيحية بالزمن والوتيرة. ففي عام 1878 أسست الطائفة السنية بفضل دعم العائلات البيروتية، جمعية المقاصد الإسلامية. وفي ثلاثينيات القرن الماضي أنشأ رشيد يوسف بيضون (شيعي) الكلية العاملية التي كانت غايتها تعليم شباب جبل عامل في الجنوب اللبناني، ثم ساهم في تأسيس المهنية العاملية لاحقاً. أيضاً أسّس المتصرّف داوود باشا المدرسة الداودية مع أعيان الموحدين الدروز بعد جمع أوقاف الموحدين الدروز في وقف واحد سمي بـ«وقف الداودية» لتأمين مستلزمات ونفقات المدرسة. وأسّس عارف الكندي، أحد أبرز رعاة الداوودية المدرسة المعنية نسبة لأمراء آل معن، ولاحقاً تأسست مدارس أمل التربوية ومدارس المهدي والمصطفى.
سعي الطوائف لنشر المؤسسات التعليمية (مدارس وجامعات) جعل للتعليم الخاص حدّان ماضيان:
• التنوير والانفتاح على الغرب والثقافات واللغات، وهو ما ساهم في جعل لبنان جسراً ثقافياً بالفعل بين الشرق والغرب.
• الانغلاق والتقوقع على الطائفة وتعاليمها وقيمها ومفاهيمها وهو أحد أسباب الشرخ في الشخصية الوطنية اللبنانية .

الأكلاف والإنفاق
سنعتمد في هذا البحث لتحديد كلفة تعليم التلامذة والطلاب في لبنان، على معطيات السنة الدراسية 2017-2018، نظراً إلى اكتمالها خلافاً لباقي السنوات. وأعتقد أنه يمكن الاعتماد على النتائج المستخلصة منها كأساس للرأي، لأن الوضع التعليمي في السنوات 2018-2019-2020 مشابه لها.
بلغ الإنفاق الحكومي على التربية والتعليم بين عامَي 1993 و 2017 ما مجموعه 23278 مليار ليرة، أي ما يعادل 15.3 مليار دولار (على أساس سعر الصرف المعتمد رسمياً بقيمة 1515 ليرة لكل دولار)، وذلك من أصل إنفاق حكومة إجمالي (مستثنى منه الإنفاق على مؤسسة كهرباء لبنان) بلغ 259188 مليار ليرة أو ما يعادل 171 مليار دولار.

53%

هو نسبة كلفة التلميذ أو الطالب في التعليم الرسمي من كلفة التعليم الخاص، أي إن كلفة التعليم الخاص تساوي تقريباً ضعفَي كلفة التعليم الرسمي

وبين عامَي 1993 و2017، انخفضت نسبة الإنفاق على التربية والتعليم كنسبة من مجمل الإنفاق الحكومي من 12% إلى 8.82% في عام 2017.
يتبين من تفاصيل الإنفاق الحكومي العام، بأن فوائد الدين العام قفزت من 3% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1993 لتصل إلى 20%، أو خمس الناتج المحلي، قبل أن تنخفض مجدداً وبشكل تدرجي إلى 7% في حدّها الأدنى. فما حصل هو أن السياسات المتبعة، ولا سيما نقدياً، أدّت إلى تعظيم أسعار الفائدة التي صبّت الثروات في جيوب الأغنياء، وكبحت الإنفاق على الشؤون الاجتماعية والتعليم والتربية التي لم تتجاوز 3% من الناتج المحلي. كما يتبين أيضاً أن الإنفاق على التعليم الرسمي لم يتجاوز 21% من الإنفاق على فوائد الدين العام، وهذا يدل على تدنّي اهتمام الدولة بالتعليم وبالإنفاق على التربية والتعليم لأن سياساتها العامة استهدفت تعظيم ثروة حملة السندات، وهم قلّة نسبة إلى المستفيدين من التعليم الرسمي، في مقابل تحميل الأسر اللبنانية كلفة تعليم أبنائهم من جيوبهم الخاصة، كما أن المشكلة تعاظمت بعد انهيار سعر الليرة مقابل الدولار.

الاستعمار الأكاديمي
يصعب الخروج من عملية تطييف التعليم في لبنان، لكن هناك مسار يتضمن إجراءات لا بدّ منها، مثل ربط الاقتصاد بمخرجات التعليم، وربط المعرفة والإنتاج المعرفي بالحاجات الاقتصادية، وتكييف الاقتصاد ليلبّي مخرجات التعليم بعد التحوّل إلى التعليم الرقمي. ولا بدّ أيضاً من أن تقوم الدولة بتوفير التعليم المجاني عبر المدرسة الرسمية والجامعة الوطنية والمدارس الخاصة التي تتعاقد مع الدولة وتلتزم البرامج الرسمية. فمن ميزات التعليم المجاني تحقيق مقوّمات الدولة المدنية (سياسي). إن خيار التعليم المجاني يعزّز شرعية الدولة المدنية من خلال التعبير عن فعالية الدولة في تأمين إحدى الحاجات الأساسية للمواطن، ومن خلال البرامج التربوية الموحّدة التي تسهم في بناء أفق مشترك للمجتمع. كما يساهم التعليم المجاني في تغيير مفهوم العمل السياسي، من أجل تحويل الحزب السياسي من مساهم في نظام تقاسم الحصص القائم على شراء الولاءات عبر تأمين الحاجات أساسية للمواطن (كالدخول إلى المدرسة أو المستشفى)، إلى بناء منفعة عامة عبر الدولة في إطار مشروع سياسي لا يعبر انحيازه عن علاقة زبائنيّة أو ابتزاز.

الإنفاق على التعليم الرسمي لم يتجاوز 21% من الإنفاق على فوائد الدين العام


يجب إنشاء صندوق سيادي للتعليم غايته تمويل التعليم المجاني والإلزامي، وتكون موارده معتمدة على اعتمادات في الموازنة العامة بعد زيادة واردات الدولة من الضرائب التصاعدية على الدخل والاستهلاك، ونسبة من عائدات عائدات الغاز والنفط.
أما السمة البارزة أيضاً والمتصلة بتشجيع الحكومة للتعليم في المدارس الخاصة على حساب التعليم في المدارس العامة، فهي متعلقة بالدعم الذي يحصل عليه القطاع الخاص من الموارد العامة، إذ يتم تخصيص 28% من مجموع نفقات التعليم العام، للقطاع الخاص «وهو دعم يفاقم اللامساواة ولا يؤدّي إلى تعليم أفضل، بل يفضي إلى ارتفاع معدلات الانقطاع عن الدراسة لدى أطفال الأسر الفقيرة مقارنة بأطفال الأسر الأكثر ثراء. ويمارس القليل من الرقابة على قطاع المدارس الخاصة، ما يؤدي إلى تباين معايير الجودة، وانخفاضها بشكل عام، وإلى قلة المساءلة»، وفق رأي المقرّر الخاص المعني بمسألة الفقر وحقوق الإنسان أوليفييه دي شوتر.
لكن الأهم، هو أن إنهاء الاستعمار في تمويل التعليم لا يعني فقط إنهاء التمويل الخارجي للتعليم الهادف إلى تحقيق السيطرة الثقافية والاقتصادية، بل ينبغي إنهاء التمويل للتعليم الطائفي والمذهبي والحزبي الذي يؤدي حتماً إلى تفتيت المجتمع وتفكيك الدولة.

* مدير المحاسبة العامة السابق في وزارة المالية، النقيب الأسبق لخبراء المحاسبة المجازين في لبنان، عضو مؤسّس في المنتدى الاقتصادي والاجتماعي



رسم بياني

التمويل الدولي للتعليم
بين عامَي 2018 و2022 خصّص البنك الدولي قروضاً لقطاع التعليم بقيمة إجمالية بلغت 22362 مليون دولار، وهو يقول أن هذا التمويل يهدف إلى تدعيم رأس المال البشري من أجل مكافحة الفقر وانعدام المساواة من خلال الارتقاء بجودة التعليم، وزيادة التحاق الفتيات بالتعليم الثانوي وتدعيم المهارات.... البنك الدولي يدّعي أنه أكبر مصدر للتمويل الخارجي لخدمات التعليم في البلدان النامية وجاء في التقرير السنوي أنه «على مدى السنوات الثلاث الماضية تُضاعف إقراضنا لقطاع التعليم مقارنة بالسنوات العشر السابقة ويستفيد من مشروعنا 432 مليون طالب و18 مليون معلم على الأقل أي ثلث الطلاب وقرابة ربع المعلمين في البلدان المتعاملة معنا. ونحن أيضاً أكثر هيئة مسؤولة عن إدارة تنفيذ منح الشراكة العالمية من أجل التعليم للبلدان منخفضة الدخل حيث ندير 3.6 مليارات دولار في هذه المنح أو 57% من محفظة المنح الخاصة بها».

أنقر على الرسم البياني لتكبيره