يتابع عاصم المصري أبحاثه في اللغة العربية، كسلسلة تعالج التفكير في اللغة ولغة التفكير. أبحاث بدأها في مؤلفه الأوّل «الأبجدية ودلالاتها بين النظرية والتطبيق» الصادر سنة 2013، والثاني «جدلية الثنائي وآليّة الاشتقاق» الصادر سنة 2014. وهذا مؤلف ثالث بعنوان «النظام اللغوي وجدليّة التناقض»، الصادر أخيراً عن «دار الفرات للنشر والتوزيع» في بيروت.
ورثت الإنسانيّة أبجديّات عدة، منها أبجديتنا العربية التي تميّزت بأسماءٍ لحروف عددها 28 مرتّبة بنسق أبجد، هوز...، مدوّنة كتابةً بخط المسند من مملكة سبأ. لكل حرف اسم يُعرف به ودلالة ومعنى، ومعناه كامنٌ في مُسمّاه. فكانت البداية عنده فكفكة أُحجيّة أسماء حروف هذه الأبجديّة وترتيب نسقها. مع أنَّنا حفظناها ببغائيّاً، إلّا أنّه لم يحدث أنْ نظرنا إلى دلالات معانيها الظاهرة في أسمائها، ولا بحثنا خواص كلّ منها ودورها في تشكيل البناء اللُّغوي.
أوضح الكاتب كيف استنطق المعنى من تناقض الحرف الأوّل مع الحرف الثالث من كل اسم بدلالة الحرف الوسيط بينهما، كما «ق ا ف» و«ك ا ف» تناقضهما مع «ف ا ء»، وأنّ الفاء فصل وتفريق للمغلق «قاف» ولتكتل «كاف».

وقد ترتّب على ذلك أن عالج علاقات حروف الأبجدية فيما بينها؛ مبيّناً مركز كل منها وتأثّره بغيره من الحروف وطبيعة عمله وتأثيره فيها؛ إن كانت حركته بالسالب أو بالموجب أو هي حياديّة، توصلاً لبُنية الكَلِم.
رحلة الكاتب الفكرية مع الحروف، لم تتوقف، إذ أخذته أسرارُها إلى البحث في جدليّاتها لملاحقة التفكير في اللُّغة ومعاينة لغته. عالج حروف العلّة وصيغها (أي الفتحة والضمّة والكسرة)؛ مبيّناً أهمّيتها في الدّلالة على معنى الحرف، توصّلاً لبيان المعنى الجدليّ والمعنى الحركيّ والمعنى القصديّ للكَلِم (فعل واسم وحرف)، متابعاً الضمائر وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة، ثمّ الفعل في صِيَغه المختلفة، ليستنتج أنّ هذه العلاقات محكومة برباط النظام اللُّغويِّ وجدل المعرفة، أي ما هو مُفكّر فيه وما تقوله الأشياء، وأنّ جدل المعرفة هو مفتاح المزاوجة بين جدل اللّغة وجدل الكون.
هذه الجدليّة عنده فاعلة في مكوّنات النظام اللُّغوي، بدءاً من اسم الحرف، ثمّ من بُنية الكلِمة، ومستمرّة في العلاقة بين المفكّر فيه كجدل معرفيّ والمفكَّر به كنظام لغويّ يصيغ لغة خطاب وتواصل، مؤكّداً ما ذهب إليه في كتابه «جدليّة الثنائي وآليّة الاشتقاق» من أنّ الثنائيّ هو أساس الاشتقاق، كما في مثاله لفظ «عصر»، فهو يُبنى من احتمالين:
الأوَّل: البناء من (عص×ر) أي [معاينة الـ (عين) ترابط (صاد)] وتكرار (عص) بـ (راء) لبيان ترابط المحتوى؛ كعصر الفواكه. استخدمه التَّنزيلُ في قوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً} النبأ 14.
الثَّاني: هو البناء من (ع×صر)، أي مُعاينة [الـ(عين) لـ(صَّر)]، كـ(صرّ) المال. استُخدم في التَّنزيلِ بقوله: {وَالْعَصْرِ}، {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.} العصر 3،2،1. ولا علاقة للعصر هنا بالنهار الآيل إلى الانصراف.
من ضمن ما حقَّقه البحث أنّه اكتشف جدليّة المعنى في بُنية الكَلِمة، فأدّت إلى مؤشِّرات دلاليّة تختلفُ عمّا كان متعارفاً عليها تقادُماً؛ حيث كانت الكَلِمة، عند وضعها في الجملة، تضيق وتجمد في سياقٍ ومفهومٍ لا تبارحه. وعند ردّ المعنى إلى ذاتيّة اللَّفظة، وإعادة التفكّر في مقاربتها مع المُستخدَم تاريخيَّاً، تسنّى تأليف المعاني في السِّياقات المختلفة للكلِمة عينها. وهذا يقتضي استخلاص الدَّلالة الذَّاتيَّة لكلِّ كلِمة من بُنية حروفها، ومعرفة وجهة الحركة التي تؤلّف سياقها الزَّمكاني، ثمَّ متابعة حركة سير الفكر إلى وجهته في الجملة وفي السياق، فتأتي المعرفة النَّحويّة والصرفيّة لتؤكّد دور الوسائط، كحروف المعاني والضمائر وأسماء الإشارة، ما يخلق نطاق تواصل معرفيّ متين لا يحتمل اختلاط المفاهيم.

اكتشف البحث جدليّة المعنى
في بُنية الكَلِمة

مع أنّ لكلِّ لفظة ذاكرة تاريخيّة، نشأت عن استعمالات متعدّدة في سياقات مختلفة، واتخذت لها معطى ثابتاً في الذاكرة الشعبيّة، ورغم ما قد يحمل هذا المعطى من مخادعة للمعنى، فإنّه حفر عميقاً في التراث وفي الذاكرة التخاطبيّة، فجمدت وتصلّب الرأي معها متمادياً التأثير في الإرث الثقافيّ والفكريّ، الذي قُرِأ تاريخيّاً بمعانٍ مختلفة، ما أَغلق التحاور مع الماضي لغةً وفكراً. ما حاوله الباحث هنا هو فكّ أسْرِها واسترداد ذاتيتها الحركيّة، ووضعها في جدل التوازن الذي تكتنزه حروفها، معتبراً أنّ من المهام الأولى للفكر اللُّغوي تشريع نوافذ البصيرة للتنفّس برئة الحاضر، والأخذ من ضياء المعرفة ما يخرج التفكير اللُّغويّ من متاهات أقبية الماضي. المفترض عنده أنْ تثير مُخرجات التفكير باللّغة مكامن المحتوى الدَّلاليّ لإبراز فكر الشخصيَّة العربيّة التاريخيّ، بلا تعميم يؤبّد القياس سواء أكان دينيَّاً أم لُغويّاً. وأنَّ السَّماح للفكر اللُّغويّ بالظهور العلنيّ وبثوب مقبول، يفترض تجديد آلة الحياكة ونظام عملها، واستدعاء حائك ماهر، وتعزيز قدراته بأدوات مناسبة تمكّنه من إبداع زيٍّ لائقٍ، يقدّر الشكل ويهتم بالمضمون، ليصار إلى تداول يعمِّق التواصل ويفي اللّغة حقّها ويعيد لها اعتبارها.
أكّد البحثُ كمحصّلة، أنّ لعبة المعنى تمثلّها الحروف؛ إذ تتحرّك الكلِمةُ بها على رقعة المتغيرات اللَّانهائيّة، ولكلٍّ منهما دور يؤدّيه في حركيّة الوجود الاحتماليّ للأفكار. فالحرف ليس شكلاً أو رسماً كتابياً يرمز إلى دلالة الاستخدام فقط، بل أداة بناء لتفكير نتقصّى من خلاله عالم المعرفة. بقراءة جدل الكون بجدل اللُّغة، ننظر من الكليّات إلى الجزئيّات لنتحد بالمطلق، ربّما يدلّنا على أنفسنا وعلى الأشياء والآخرين فينا. لهذا تبيّن له أنّ حروف البناء هي لَبِنات الكَلِم وهي في الكلِمة والكلِمة فيها، وأنّ الحركات تعيّن الوجهة وتضع الكلِمة في الزمان والمكان والكيف كلواصق لهذه اللَّبِنات، وحروف المعاني تُوَظَّف لتشكيل الكلِمة كي تأخذ مكانها في السّياق، تؤازرها الضمائر وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة لتضيف الخصائص الذاتيّة بين المرسِل والمستقبِل، معزّزة بأسماء الاستفهام وأسماء الشرط فتفاعل جدل العلاقة بين مضمون الرسالة وفكر المرسِل والمرسَل إليه. تأتي صيغ الأفعال لتضع الكلِمة في بعدي المكان والزمان، والكمّ والكيف. ويحوز الاسم في محطّات حركة الفعل لتمييز الموجودات. بهذا كلّه تُثبّت الجملة الكلمات في السياق لمساكنة الفكر؛ فالكلِمة في الجملة والجملة في الكلِمة يتبادلان التعريف ببعض. النتيجة أنّ توازن التناقض في السّياق هو الذي يحتمل التأويل وليس الكلِمة، ومن الصواب أن لا يُرتهن المعنى المستخدَم لحالةٍ ولهيئةٍ ثابتةٍ، بَلْ يجب فكّ أسره ومنحه حريّة الحركة، لئلا يجمد الفكر عند زمن ومعطى معيّن. وخلص إلى أنّ النظام اللُّغويّ العربيّ يقوم بصفته نظام على قانون يحكم التفكير في اللُّغة؛ ألا وهو قانون توازن التناقض، كما وضّحه في المخطط التالي:
للصورة المكبرة انقر هنا

البحث في مجمله، يؤكّد صحة الاستنتاج بأنّ اللغة مسؤولة عن الفكر، وأنّها انعكاسٌ مباشرٌ لما يفكَّر به وفيه، وأنْ ليس هناك فكرٌ من دون لغة. نظريّة اللُّغة التي تحدّثَ عن بعض معالمها في فصول الكتاب، تؤدّي إلى التفكير في بُعدها المتعلّق بالهويّة والاحتواء الحضاريّ والثقافيّ، وبالفضاء الذي طمح للتحليق في آفاقه. وهي تسعى لمعايرة البُعد الوظيفيّ من خلال الاستعمال، ولتحقيق التواصل الثقافيّ والفكريّ والمعرفيّ، مع تأكيد حضور الهويّة القوميّة كنسق انتمائيّ للأمّة، وكرافعة ديناميّة جدليّة لكينونة قادرة على الأخذ والعطاء.