في يوم بارد من شتاء عام 1981، انطفأت عيون سهراب سبهري (١٩٢٨)، إحدى أيقونات الشعر الفارسي الحديث بعد صراع طويل مع مرض اللوكيميا في مدينته الأم كاشان القائمة على طرف الصحراء. مدينة أحبها سهراب إلى درجة العشق مستلّاً من زرقة سمائها اللازوردية وورود النينوفار فيها وأعياد النوروز مادةً أوليةً لشعره وللجانب الآخر الذي بقي مجهولاً عند سبهري، وهو الرسم. إذ لا يقلّ الأخير أهمية عما صاغه «رامبو إيران» من عالم شعري يتقاطع فيه الداخل والخارج في نوع من الماندالا الذي يقترب الشاعر معصوب العينين ليرمي وردة في وسطها تماماً، كما يقول سهراب في نص نثري بديع لم يترجم إلى العربية بعنوان «الغرفة الزرقاء». النصّ ــ الذي ننشر مقتطفات منه هنا ـــ ظهر في المختارات التي أعدتها نانا كالاتباري لدار Europerse الفرنسية عام ٢٠١١، مكتنفاً تقاطعات الفلسفة الشرقية والعرفان الإيراني والروح الشاعرة لسبهري الذي يتخذ من غرفة زرقاء في جوف الحديقة نقطة انطلاق للسفر إلى الروح والشعر والحب. يستخدم القاموس ذاته الذي عرفناه به في مجموعاته الساحرة «موت اللون» و«حياة الرؤى» و«شرق الحزن» و«وقع خطى الماء» وغيرها التي صدرت أخيراً بالعربية عن «دار الرافدين» (٢٠١٨ـ ترجمة غسان حمدان). يزور الإيرانيون اليوم قبر سهراب سبهري في كاشان كدأبهم مع شعرائهم العظام، مثل حافظ الشيرازي وسعدي صاحب «البستان» والفردوسي صاحب «الشهنامة» للتبرك بـ «زفرة نور» تنبعث من غرفة زرقاء في الحديقة.في خلفيّة حديقتنا، كان هناك مسكن لخادم حظيرة البهائم. فوق هذا المسكن، وجِدَت غرفةٌ باللون الأزرق، كانت تسمّى بـ «الغرفة الزرقاء». مسكن الخادم والحظيرة قد تم تشييدهما جزئياً تحت مستوى الحديقة، بحيث أنه من الفتحات القائمة في أعلى المعالف، يمكننا رؤية رؤوس البهائم حتى أعناقها. زقاق متبوع بدرجات ثلاث كان يقود إلى الغرفة الزرقاء التي لم تتأخر في نسج علاقة حميمة مع الأرض. كنا نسكن في تلك الغرفة.


أبصَرت أمي يوماً ثعباناً ملتفاً على نفسه عند أحد شبابيك الغرفة وانتابها خوف عظيم: في اليوم ذاته، نزحنا إلى غرفة أخرى تقوم في شمالي البيت: غرفة بيضاء بشبابيك خمسة انتقلنا إليها إلى الأبد. أما الغرفة الزرقاء، هي، فقد قُدِّر لها أن تبقى مهجورة أيضاً للأبد. في كتب تعاليم يوغا الكفّين الهندية، نقرأ أن منطقة «غياب الخوف» هي في شمال الكف: لقد كانت أمي على حق في الهجرة إلى شمال المنزل، ونقرأ أيضاً أن «الرأفة» تتموضع في الجنوب: لم يفكر أحد يومها بقتل ثعبان الغرفة الزرقاء. لقد كان لدينا الكثير من الثعابين التي لم تحمل لنا الذهب بين أنيابها، لكن مشهداً لم أره من قبل باغَتني يوماً قرب مسكن الخادم: اثنان منها يلتفان حول بعضهما وأشبه بالرسوم التي تزخرف جدران المعابد المقدسة: الإله مركوريوس كان ليضع قصبته الذهبية بين الجسمين الملتحمين لينفصلا ويتسلقا القصبة بسرعة وسلام. هرقل، في عمر العشرة أشهر، كان قد قتل اثنين من الثعابين بقبضتي يديه، لكني كنت أرتجف من الخوف.
ركضت إلى الطرف المقابل من الحديقة، وناديت عمي الأصغر الذي هرع حاملاً بندقية الصيد. لم يكن عمي ليعرف الميثولوجيا أو تاريخ الأديان: حين يرى هندوسي ما منظر الأفاعي الملتفة، يتراجع ويشبك كفيه، ويظهر الاحترام نفسه بالطريقة ذاتها التي يرى فيها اتحاد نبتتين طفيليتَين كزواج مقدس. لم يكن ليعرف أنه في أساطير الهنود الأميركيين وشائج تربط ما بين الثعبان والماء والخصب، وأنه في علم الخيمياء فإنه يصوب بندقيته نحو الزئبق والكبريت اللازمين لصنع حجر الفلسفة. لم يكن ليعرف غوته أيضاً، ولم يقرأ «الثعبان الأخضر» الذي يبتلع الذهب ليصير مشعاً ويكشف السر الرابع للفلاسفة. حين يضحي الثعبان بنفسه، يتحول جسده إلى جوهرة تتحول بدورها إلى جسر، أو إلى قوس قزح. لم يكن عمي ليكترث بأيّ من تلك الأشياء، أطلق النار ليصيب الثعبان الأول. أما الثاني فقد افتض العقدة وأخذ بطريق النجاة عبر باب المسكن الذي يفضي إلى الصحراء. حَملنا جثة الثعبان لندفنها على كعب شجرة في شميران. في السنة التي تلت، الشجرة ذاتها أينعت ثماراً كثيرة.
فوق سطح الغرفة الزرقاء، كنت دائماً حافي القدمين. الأقدام الحافية هي من تلك البركات التي اندثرت اليوم. الحذاء يمثّل ما تبقى من مساعي الإنسانية لنكران سقوط آدم من الجنة. في النعل جانب شيطاني، إنه تلك الجلبة وسط الحوار المقدس بين القَدَم والأرض. تحت أقدامي، كنت أحس بخشونة الطوب الأصفر، كان جسد السطح يخفق تحتهما، كنت أعلو وأهبط عبر النتوءات الرائعة وأنزلق، كنت أسافر خارج الزمن وكانت الحياة ترمقني بطرفها: إنها أشبه بدوار لطيف. حين كنت أدبّ على أربع لأتسلق قنطرة السطح ذات الأحجار المتباعدة، كنت أشعر بأني أتسلق نهداً عملاقاً. هذا النهد ينتمي لجسد لم يكن ليجد مكانه داخل أبعاد الكون. في الأيقونات الهندية، المرأة تستر عورتها بيدها اليسرى. تحمل وليدها فوق الجانب الأيسر من جسدها، وعلى أحد الأعمدة يرضع طفل من ثدي الأفعى الأيسر. في عيون الهنود والإغريق والمصريين القدماء، كل جانب من الجسد يحمل رمزاً ما. النساء في بلادنا يجهلن الفارق بين الثدي الأيمن والثدي الأيسر.
الغرفة الزرقاء كانت أشبه بالماندالا، وقد فهمت ذلك متأخراً. كانت مشهداً استعارياً للكون والجسد الإنساني: المشهدية الدرامية للانشطار والعودة إلى الأصل، واليقظة القيامية لوعي الذات. حين رفع البنّاء القواعد من الغرفة الزرقاء، لم يكن ليستعمل الحبال البيضاء، أو الحبال الملونة بالخيوط الخمسة. صوت بعيد محفور في لاوعيه كان يناديه. لم يذهب يوماً إلى الهند أو إلى التيبت، لم يعرف حتى قصور ملوك إيران الغابرين. البنّاء ـ المعلم الذي شيّد الغرفة الزرقاء، كان شاهداً على الأفكار والأفعال النقية: ليس كمثل مهندسي اليوم، المرضى بالعقل الغربي. لقد كان مهتدياً بالحدس والبشارة. قوة غامضة كانت تسحبني نحو الغرفة الزرقاء. أحياناً، وسط اللعب، كانت تناديني. كنت أفترق عن أصدقائي، لأدخل في جوفها وأسمَع. كنت أسمع شيئاً ما في داخلي، مثل وقع خطى الماء الذي نسمعه في الأحلام، أو مثل حدَثٍ جلل يحصل في الصباح الباكر، أو أشياءَ كانت تمر وتتصادم في نفسي. لم تكن عيناي تبصران أي شيء، بل كانتا تنقّبان في فراغي الداخلي. بعدها أستحيل خفيفاً مثل الريشة، وشيئاً فشيئاً أتصاعد في روحي، كأنّ ثمة حضوراً يزحف ويحتلّ مكاني، حضور يشبه زفرة نور. هذه الحال الرقيقة والحساسة كانت تصل إلى نوع من التشقق مثل وعاء البورسلين، وكنت أهرب من الغرفة بقفزة. في قلب الماندالا، كنت أشق طريقي بسهولة. لم تكن الدراما لتوجد حول الطقوس الدينية: على العتبة الغربية للغرفة، قام الصَحب مرة بعصب عينيّ من أجل رمي وردة في وسط «الماندالا»: تذكرت الربيع، حين كنت أقطف زهرة الأمارنت، تلك الزهرة المخملية، والآن ها أنا أرميها في قلب الغرفة الزرقاء، في وسطها تماماً.
الحذاء يمثل ما تبقى من مساعي الإنسانية لنكران سقوط آدم من الجنة


لقد قلت إن أرضية الغرفة الزرقاء كانت من الطوب المطلي باللون الأصفر. في المسيحية، بعدما كان الأصفر لبرهة رمزاً للفرح، فقد تحول إلى لون للحسد والخيانة، لقد تحول إلى لون ملابس يهوذا في الرسومات. عند غوغول، اللون الأصفر يبعث على الخوف، أما عند ت. س اليوت، فإنه مرادف للخطيئة. باشو معلّم الهايكو، ذاهباً أبعد من إليوت، كان يسمع الهارمونيا بين الصوت ومصدره: (بغنائه الأصفر/ ينادي صغيرَه/ الكناري). لكنّ صوتاً ما كان يناديني من الغرفة الزرقاء، من لونها الأزرق تحديداً. هذا اللون كان يتمدّد في حياتي كلها، كان يجد لنفسه مكاناً بين الكلمات والصمت. وحين تتسارع أفكاري كانت تصبح زرقاء. اللون الأزرق معرفة، كنت أعيش على طرف صحراء كوير، وفوقي كان الأزرق كثيفاً. على الأرض أيضاً، كانت هناك نفائس من الأزرق. ليس بعيداً من مدينتي كان يوجد منجم لللازورد. لقد أبصرت الأزرق في أرضيات المنازل، وعلى زخرفات القرآن حيث يتزاوج مع الذهب. حديقتنا كانت تمتلئ بالنينوفار الأزرق. هناك لون أزرق في الحب. أوفترديتغن (Ofterdingen) بطل نوفاليس، كان يرى وجه حبيبته في مزهرية زرقاء. كان يبصر في المنام علاقته بماتيلد في وطنهما الإلهي، تحت النهر الأزرق للزمن. يقول نوفاليس: «في كتابي، كل شيء أزرق». رامبو يزاوج بين المقطع الصوتي (O) واللون الأزرق، وكاندينسكي يربطه بالدائرة. خيمينيز، عند البحر يخاطب إلهه الأزرق: «الرب اليوم أزرق، أزرق، أزرق، هو في كل لحظة أكثر زرقة». في البحر نصل إلى النهاية الزرقاء: شيتانيا، أحد الفلاسفة الهنود، في قمة النشوة، تعرّف يوماً على إلهه، كريشنا، في ماء بلون اليمّ: رمى نفسه فيه وغرق!

* المرجع: «مختارات نثرية ورسائل سهراب سبهري»، ترجمة نانا كالاتباري، «دار أوروبيرس» ٢٠١١، وستصدر ترجمة كاملة لـ «الغرفة الزرقاء» لدى «دار الرافدين» (٢٠١٩).