يستحضر الروائي المصري عزت القمحاوي في كتابه «غرفة المسافرين» (الدار المصرية اللبنانية) كل ما تحتاج له مفردة السفر من أغراض وحقائب ونزوات، مدفوعاً بفكرة جوهرية «من لم يسافر، ولو عبر قصة في كتاب، لم يعش سوى حياة واحدة قصيرة». كأن هذه المدوّنة كانت تنمو على هوامش رواياته في الحضور والتواري، وفي الإقامة والترحال، في ما يخصّ السفر والهجرة والمنفى الاختياري، فهي دعائم أساسية في استراتيجية السرد لديه. لكنه من مقلبٍ آخر يعزّز ضرباً من الكتابة الذاتية التي تحفر عميقاً في طبائع الشخصيات ومصائرها المتحوّلة، تبعاً لمشيئة الأمكنة. كان كتابه الأول «الأيك في المباهج والأحزان» عتبة لقراءة الجسد، وتطريز عمل الحواس سوسيولوجياً، وسوف يستكمله بفضاءات أخرى في «كتاب الغواية» الذي أتى على هيئة رسائل إلكترونية في الشوق والوجد والغياب بما يشبه «هذيان الكتابة»، وصولاً إلى حركة مجداف مباغتة في اقتفاء أثر مصائر مهاجرين غير شرعيين في «العار من الضفتين».

في «غرفة المسافرين»، سنقع، من دون عناء، على جغرافيا بعض شخصياته الروائية، ولكن بتحديقة عين أخرى، لا تتوانى عن هتك اللامرئيات، وإعادة تركيب الأمكنة، وفقاً لمزاج شخصي يتكئ على مخزون ثقافي يعينه في تفسير معنى الترحال. ذلك أن حقيبة هذا المسافر لا تخلو من كتب، توضع جنباً إلى جنب مع حاجات السفر، قبل أن تُخزّن لاحقاً في «الآي باد» كحقيبة أخرى أقلّ ثقلاً. هكذا تتوالد حقائب السفر على طريقة «ألف ليلة وليلة» التي يفتتح بها صندوق حكاياته بوصفها النصّ الأم لمفردة السفر: «ماذا يمكن أن يتبقّى من «ألف ليلة وليلة» إذا حذفنا السفر من متنها؟» يقول. ويوضّح بأن السفر هو «روح السرد في كل زمان، يمدّه بالدهشة، ويمهّد للانطلاقات الكبرى في الحكاية».
سنلتقي سرفانتس في «دون كيخوته»، وهيرمان ملفل في «موبي ديك»، وايتالو كالفينو في «مدن لا مرئية» في رحلاتهم العجائبية. وفي تحديقة أكثر إمعاناً، سنجد داخل حقيبة السفر نسخة من تحفة أكزوبري «الأمير الصغير»، ورواية «الموت في البندقية» لتوماس مان، كما ستتناسل كتب أخرى، وفقاً لمتطلبات هذه الرحلة أو تلك. وتالياً، فإن ما يكتبه عزت القمحاوي لا يدخل في باب أدب الرحلات بقدر ما هو نصوص هجينة تشبه محتويات حقيبة السفر نفسها، بخلائط تجمع فرشاة الأسنان والقمصان والتذكارات إلى جانب أقراص الأدوية. الحقيبة كموقع شبهة في مراكز التفتيش في المطارات، مشاهد التعري القسري عند بوابات المغادرة خشية الممنوعات، الرعب من تهمة ما، الخفّة والثقل، الألفة والوحشة، الحلم والكابوس، كأن الكتابة هي الأخرى حقيبة أفكار موازية. أن تجرّ حقيبة ثقيلة في دماغك، تستدعي نصوصاً ترمم المشهد الأصلي بما ينقصه من وصف أو حفر أو إيماءة إضافية، بتواقيع تمتد من جيمس جويس، وإيتالو كالفينو، وكافافي، وأمبرتو إيكو، إلى نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وآخرين. وإذا بنا حيال ترحال واقعي داخل الترحال المتخيّل، وصولاً إلى رعب ركوب الطائرة ومحاولة امتصاص احتمالات الموت بألعاب ومراوغات وطمأنينة مؤقتة لنسيان وطأة الحياة المتأرجحة بين السماء والأرض. من المشهد الخارجي الذي يعتني بالساحات والنُصب والمتاحف والعمارة، إلى المشهد الداخلي، يضيق حجم تحديقة العين نحو فضاء الفندق، ثم فضاء الغرفة، والسرير، وبانيو الحمّام، ما يعني يقظة الحواس، ونداء الغريزة (سنتذكّر مشهديات خاطفة من روايته «البحر خلف الستائر» لجهة تشريح جماليات المكان الضيّق، وتأمل مفردات الوحدة، والشهوات المؤجلة؟). الغرفة ستحيل أيضاً إلى «غرفة ترى النيل» عن مصير رجل يحتضر في غرفة مستشفى. كأن هذه الأماكن هي حراثة موازية لما دوّنه في الروايات أو العكس، فالرحلة إلى روما، هي ترجيع واستثمار لرحلة بطلي روايته «أن نكون معاً»، وإن بمقاصد أخرى. بالنسبة لعمل الغريزة، سنجده على نحوٍ مكشوف في ما يحدث في غرف فنادق المؤتمرات الثقافية خصوصاً، لجهة ادعاء الفحولة والمغامرات المتخيّلة لشعراء ونقّاد وروائيين واهمين.
سنلتقي سرفانتس في «دون كيخوته»، وملفل في «موبي ديك»، وكالفينو في «مدن لا مرئية»


السفر رحلة ذهاب، ولكن ماذا عن رحلة الإياب، خصوصاً لمن يعيشون غربةً طويلة؟ هنا تتضخّم صورة الوطن، و«تصبح أسطورية تماماً»، لافتاً إلى سيرة المنفى التي لم تُكتب تماماً. ستحضر رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» كنصّ نموذجي لمجازي الحياة والموت في شخصيتي الراوي، و«مصطفى سعيد». يقول صاحب «الحارس» بأن «الفضيلة الكبرى للسفر أنه يصالحنا مع أماكن عيشنا الأصلية، لأننا نعود منه مشتاقين إلى سريرنا الأصلي، عملنا الذي نستمد منه المعنى، وطعم قهوتنا المعتاد». هكذا يغلق القوس على معجم السفر بإحالاته المتعددة، وبوصفه ردّاً تلقائياً على الموت، وعلى الانكسار في الحب، وعمى المكان الأصلي، في حكايات متجاورة ومتوالدة، لكنها لن ترقى إلى جسارة الاعترافات الذاتية الكاملة، لانهماكها بسوسيولوجيا المسافر العربي المحزون في المقام الأول. تكمن أهمية «غرفة المسافرين» إذاً، في أنها توقظ لدى المتلقي مدونته الخاصة في مجاز السفر، أو مسودته الشخصية، فلكل مسافر خريطته التي لا تشبه خرائط الآخرين، في المغامرة، والخيبة، واحتدام العاطفة وانكسارها «أرني حقيبتك كي أراك»، وفي تفسير عبارة قسطنطين كافافي «الرحلة إلى إيثاكا أجمل من إيثاكا». وستغيب هنا عبارة «ممنوع من السفر لأسباب أمنية». العبارة التي ستنسف كل ما يحلم به المسافر في اللحظة الأخيرة للمغادرة، في بلدٍ دون آخر، أو العودة إلى البلاد في تابوت باعتبار أن «الوطن مقبرة» لا أكثر! شخصياً، سأفتقد إحدى أجمل حكايات غابرييل غارسيا ماركيز «حسناء الطائرة النائمة»، بالإضافة إلى أفلام وكتب ورحلات، بقيت خارج متون الكتاب، منصرفاً إلى سواها وفقاً للخبرة الشخصية واختلاف حقائب السفر. هنا نتذكر ما قاله المخرج الصربي أمير كوستوريكا بعدما أنجز فيلمه «زمن الغجر»: «علّمني الغجر السفر بدون حقائب»، ذلك أن هؤلاء القوم يمضون من مكانٍ إلى آخر، يتبعون جهة الشمس، بمشيئة أسطورة قديمة تقول إن العالم كله ملكهم. «غرفة المسافرين» كتاب مُلهم بدروب كثيرة تقودنا إلى الجهات ببوصلة الروح وحدها، وفي مسلكٍ آخر، كتاب عن «خفّة الكائن خارج مكان عيشه الأصلي». غرفة واحدة بمسافرين مختلفين، يتركون آثارهم فوق الملاءات، وخلف الأبواب المغلقة، والستائر.