دَرَجَ «بيت الشعر» في المغرب على إصدار مجموعة كُتُب دفعةً واحدةً كل سنة، بحيث يجمعها خيط ناظِمٌ يكون موضوعةً أو بلداً أو جغرافيا أو نوعاً كتابياً. وقد اختارت هذه المؤسّسة في 2020 أن تتمحور ثمرات إصداراتها حول الأشكال المتشظية، شعراً موضوعاً ومترجَماً ومراسلات؛ مع تنويع الأصقاع الجغرافية التي تنحسر كلها في الحوض المتوسطي (إسبانيا، فرنسا، إيطاليا، المغرب). نقدم هنا للقارئ العربي، والمشرقي خصوصاً، منتخبات من أهم خمسة كتب بين هذه الإصدارات، في إطار محاولة ملحقنا، دوماً، ضمن معركة المصير المشترك، مدّ الجسور الثقافية بين جميع أركان عالمنا العربي، ومع الثقافات الأخرى، ضدّ جُمْرُكِ الأنظمة والذوات المتقوقعة على نفسها، فلا معرفةَ للذات من دون معرفة الآخر فينا. ملاحظة: تقديم كلّ مقتطف، على حِدَة، من وضع المترجمين.
مراسلات
راينار ماريا ريلكه: ثلاث رسائل إلى صديقة من البندقية (*)
ترجمة حسونة المصباحي


كان الشاعر الألماني الكبير راينار ماريا ريلكه في الثلاثين من عمره لمّا عشق فتاة فائقة الجمال من مدينة فينيسيا الإيطالية تُدعى ميمي. وهذه الرسائل أُرسلت إليها بين عامّي 1907 و1912. وخلال السنوات الخمس، لم يتوقف ريلكه عن الترحال، متنقلاً بين باريس، وجزيرة كابري، ومدينة بريمن الألمانية، وقصر دْوينو على البحر الأدرياتيكي. وفي هذه الرسائل، نعثر على ما كان يشغله من أفكار حول الحياة والحب والشعر والشعراء.
ح.م.

1.


فينيسيا، 26 نوفمبر
حوالى منتصف الليل
صديقتي العزيزة الجميلة،
لأول مرة وحيداً أمام صورتك، يتوجب عليّ في ليل فينيسيا أن أكتب لك. وحتى ولو كانت قصيرة هذه الرسالة، فإن ميزتها أنها الأولى. وستكون هناك رسائل أخرى تكرر لك ما قلته لك للتو بكل بساطة وبراءة.
كم أنا سعيد أن أكون قد التقيت بك أنت الجميلة والرائعة. وأنا أتعلم جمالك مثل طفل ترْوى له قصة بديعة. وأنا شديد الإعجاب بالصورة التي أنت عليها وأنت تتعذبين بكل صدق ونزاهة. لقد كبر قلبك حيث تموت وتفنى قلوب أخرى. لا تنسي ذلك أبداً. ولا تنغلقي في مصيرك، بل ظلي كما أنت. احتفظي بجناحَي الملاك اللذين سيسْمحان لك بالدخول في الحياة التي تنتظرك من دون أن تعلمي بذلك - إنها نفس الأجنحة التي تحملك إلى فنك. تسلّحي بكل انطلاقاتك وتحفزاتك وافرضي على الذين تلتقين بهم جمالك وروحك كما لو أنهما قانون. تحلّي بالهدوء يا عزيزتي، كل ما سيحدث لك، لن يضرك، بل سيكون منقذاً لك.

كولاج فوتوغرافي لوائل الدغفق: وسط طنجة، سوق الخُضَر، حيث بائعات الجبن البلدي للماعز وباعة الخضر والفواكه والزيتون، 2017.

بعد كل المسائل التي تحدثنا حولها والتي أحسسنا بها معاً خلال هذه الأيام، يكون من الطبيعي أن أحبك. ولا بدّ من إعادة هذه الكلمة إلى عظمتها القديمة: لهذا السبب أنا أنطق بها من بعيد. من بعيد لأنني مسؤول عن تحمّل وحدتي. وأنطق بها من قريب لأن الذين أحبهم يساعدونني على تحملها بلا حدود.
في ما بعد، سوف يبدو لي دائماً أني فكرت في نفس اللحظة التي رأيتك فيها للمرة الأولى أنك «ميمي» – لأني أحبك منذ أمد بعيد. لكني أحبك أفضل منذ أن تعرفت إليك.
ليلة سعيدة، صديقتي العزيزة. والوقت الآن متأخّر للكتابة. وشكراً جزيلاً لك ولأختك العزيزة الطيبة: أنا أهنأ من دون حدود بكرمكم وطيبتكم.

الأحد صباحاً
أنا أيضاً: لا وداع لي أبداً.
سأحمل روحك وأوريها لله وللملائكة. ستكون في الكون. والأزهار سترى نفسها فيها مفتونة ومنبهرة، والطيور ستحطّ عليها لكي تشرب. ستكون سعيدة.
قلبي سيواصل تأملك ساجداً خاشعاً. أحبك. أسمع رنين النواقيس.

2.


في ضواحي كولونيا
الاثنين صباحاً
مشاهد تلو الأخرى. ونحن نرمي بها خلفنا من دون أن نفتحها. لا أحد يرغب فيها. ليل وأيام ليست لأيّ أحد. والمطر. المطر اللامبالي، المتعب، يسقط من دون أسف، وأخيراً المطر. وماذا بعد؟ -يا إلهي، يكفي.
لكننا نغمض أعيننا.
عزيزتي: هناك في هذا القطار الشنيع من يغمضهما. وأنت تعلمين السبب.
هو يغمضهما بقوة إلى درجة أنه يشعر أن عينيه تذوبان داخل محجريهما مثل حبّات عنب ناعمة في فميْن، إذ أنهما نضجتا بما فيه الكافية في بضعة أيام. كان الصيف. ويا له من صيف طويل.
لن تصلك الرسائل التي كتبتها لك بالأمس. لقد أعدتُ قراءتها. وكان لي شعور بالحزن. ولم أكن على صواب. أليس كذلك؟
كان هناك أناس من حولي. لم أكن وحيداً. إلاّ أنني كنت وحيداً مع ذلك. وكم كنت وحيداً.
لأكثر من مرة تناولت الـFioretti من دون أن أفهم. وفي النهاية، أخفيت وجهي في الكتاب المفتوح مثلما أخفيه في كفّي يدي. لقد كانت حركة فرانسيسكانية بسيطة، فيها شيء من الطيبة، وهي تواسيني.
سوف أقرأ هذا الكتاب الصغير المتواضع الذي يعرف عنك.
مررنا بغودسبارغ. وسنكون في «بريمن» ظهر اليوم. أفكر في زوجتي، وفي «روت» الصغيرة التي ينتظرني قلبها مفتوحاً: هذان الكائنان اللذان يوثّقان منذ سنوات حبهما الصادق والفخور بحياة التيه التي أنا أعيشها. لا بدّ أن يكون لي ما يكفي من الحب لجميع الذين أحب، لأنه لا بد أن يكون لي ذات يوم كل حب العالم لعملي الشعري.
مع ذلك، ليس لي اليوم سوى رغبة واحدة: أن أكون في فينيسيا، وحتى وإن لا أكون بجانبك: (أنا أشعر بك دائماً بجانبي في أيّ مكان أحلّ به وأحسّ أن حياتنا مديدة بالسعادة وبالألم)، لكن لكي أقرفص في كنيسة في ساعة القداس الإلهي، وأن أظل في «زاتار» لوقت طويل، وأن أمر بالأزقة الضيقة حيث يمكنني أن ألتقي بك، وأن أرى من بعيد المنزل ذا اللون الوردي الذي يبدو لي أنه الوحيد الذي بُني في البحيرات الشاطئية، والبداية وأمّ كل الساحات والكنائس التي لا تزال فيها الكنوز الرائعة. ثم لكي لا أتألم بكلّ هذا الحنين. وفي الختام أنا أعرف (منذ وقت قصير) أنه لا بدّ أن يتوفر ما يكفي من الحب لكي نحب أكثر الألم، وخاصة الألم.
فكري بكل مودة وطيبة في زوجتي يا ميمي، وفي روت الصغيرة التي ستقودينها ذات يوم إلى ساحة القديس مرقص. فكري فينا، يا ميمي. سنعمل.
أغمض عينيّ يا عزيزتي.
ملاحظة: قولي كلمات جميلة وطيّبة لأختك العزيزة. تحدثي مع والدك عني، وبلغيه احترامي وتقديري له. اكتبي لي في أقرب فرصة ممكنة. قولي لي كل شيء. أنت تعرفين العنوان: أوبرلاند قرب بريمن/ ألمانيا.

3.


أوبرلاند قرب بريمن
7ديسمبر 1907
شيء مرعب أن نفكر في أن هناك أشياء كثيرة تُبْنى وتهدم بالكلمات. والكلمات بعيدة عنا، ومنغلقة في ديمومة حياتها الثانوية، لامبالية بحاجاتنا القصوى. وهي تتراجع إلى الوراء حالما نمسك بها. وهي لها حياتها الخاصة بها، ونحن لنا حياتنا الخاصة بنا. وأنا أشعر بكلّ هذا بأشد ألم من ذي قبل في هذه اللحظة التي أكتب لك فيها أنت العزيزة عليّ جداً، والتي أرغب في أن أقول لها كلّ شيء. كيف لي أن أعبر لك عن كل ما أحسّ به، وعن كلّ ما يؤلمني، وعن كل ما يواسيني منذ أن وطئت قدماي هذا البلد الثقيل، بمواجهة السّهل الأسود والأخضر الذي يمضي حزيناً في الضباب. كيف أصف لك كلّ الحياة الأخرى التي ليست لي، والتي أجد فيها نفسي بحياء، وبعسر وصعوبة، لأنه ليس عملي هو الذي يشدّني إلى هنا؟ والحقيقة أني لا أجد نفسي داخل قلبي إلّا حين أكون بجانبك. إنه العمل الذي أريد، نفس العمل، العمل الطويل، من دون نهاية، من دون مصير. وفي الختام، العمل.
والحال أنه توجد هنا كائنات عزيزة استقبلتني بكل لطف ومودة، ولها من قبل حياة متوحدة، تلاحقني من بعيد. لقد عملت زوجتي جيداً رغم كلّ المصاعب التي تحيط بها، وروت الصغيرة تمدّ لي كلّ كيانها بحركة حقيقية تكاد تكون كبيرة تتجاوز سنّها، وأنا أجهد نفسي لكي أكون جديراً بكل هذا.
وأن أكون جديراً بك أنت أيضاً يا ميمي، أنت يا من فرض عليّ جمالك نفسه كما لو أنه واجب. وزوجتي لا ترى مانعاً في أن أحبك، ومعاً نمضي ساعات ونحن نتأمل صورتك الجميلة رغم أنها لا تعكس جلالك وبهاءك بما فيه الكفاية. والصغيرة، كم تحبك. وهي تقول لي: «الآن عندما أدخل إلى مكتبك، لا بد أن أنظر إلى هناك»، أي إلى صورتك.. وهي تسميك عرّابتها العزيزة. وهي تعلم كم أنت جميلة من دون أن أقول لها ذلك. وهذا ما أقوله لنفسي...
سأحدثك مستقبلاً عن أشياء تخصّ عملي. عليّ أن أكتب رسائل كثيرة. واليوم تمت دعوتي لإلقاء محاضرة في هانوفر قريباً. وقد لبّيت الدعوة لأنها توثق صلتي قليلاً بعملي. وداعاً عزيزتي.
ملحق: تحياتي الودية إلى أختك العزيزة. ذكريات إلى المنزل الوردي. وتحياتي إلى ماريا.
(*) راينار ماريا ريلكه: رسائل إلى صديقة من البندقية، ترجمة: حسونة المصباحي، منشورات بيت الشعر بالمغرب، 2020.

شذرات
أنطونيو بورتشيا: لا تملك شيئاً وتهديني عالماً!/ أنا مدين لك بعالم (*)
ترجمة أحمد لوغليمي


صدح أنطونيو بورتشيا بصرخة الولادة في قرية كونفلينتي الإيطالية، وهو الابن البكر لفرانتشيسكو بورتشيا وروزا فيشو. سرق الموت والده وهو في سنّ الرابعة عشر، فقررت أمه الهجرة إلى الأرجنتين، وهناك لقّنته فداحة الحياة العناية بإخوته الستة، متنقلاً بين أعمال منهكة كثيرة، كالعمل في الميناء، وحياكة السلال. بعد أشواط خاضها في أحراش الحياة المدججة بالكمائن والشراك، وبعد مجابهات مع كتائب الألم التي تجيّشها الأقدار للمبدعين الأشد رهافة وحساسيّة، تمكّن بمعية أخيه نيكولاس من امتلاك مطبعة صغيرة بشارع «سان طلمو San Telmo» حيث عمل على طباعة كل شيء حتى عام 1935. في عام 1936، اختار العيش في بيت منعزل بسيط، ملاذه الهادئ من صخب الحياة. كان بورتشيا يمتاز بطيبة لا حدود لها، عاشقاً نهماً للأدب، وللطبيعة، يحب الحفاظ على رونق حديقته ويشعر بضعف خاص أمام الأزهار. حميميّ، خجول وكتوم... بيته المتواضع كان محجّاً للذين يتوقون للقاء معلم حقيقيّ في التعبير الجمالي اللّدن والمرهف.... عمله الشذريّ «أصوات» حقق مبيعات مهولة، وكان يطبع المرة تلو الأخرى. من كتاباته الشذرية يرشح نور الاستنارات البوذية؛ الطاوية، وفلسفات الشرق الحكيمة.

شجرة الورد: رأيتها بما لا حصر له من الورد، رأيتها بوردة واحدة، رأيتها بلا ورد. ولكنك لم ترها قط بوردة زائدة ولا بوردة ناقصة. وهذا يعني أنك رأيت شجرة الورد.
■ ■ ■
الوردة التي تمسكينها بين يديك، أزهرت اليوم وصارت سريعاً في عمرك.
■ ■ ■
الأزهار غير معنية بالأمل. لأن الأمل غد، والأزهار ليس لها غد.
■ ■ ■
عندما يكون الحب قوياً، ترعبه أخفّ رفّة جناح.
■ ■ ■
الجراح أعشاش أزهار.
■ ■ ■
إنْ لم يكن عليك أن تغير الطريق، لم عليك أن تغير الدليل؟
■ ■ ■
لا تملك شيئاً وتمنحني عالماً، أنا مدين لك بعالم.
■ ■ ■
حزانى أولئك الذين يتخلّون عن أجنحتهم، فقط لأنهم لم يشاهدوها تحلقّ.
■ ■ ■
في طريقتي في الحياة أراقب كيف تنقص الأشياء، تارة بفعل الإنقاص، وأخرى بفعل الزيادة.
■ ■ ■
اليوم ينتهي، الغد ينتهي، ليس ثمة سوى الأمس هو الذي لا ينتهي.
■ ■ ■
حينما ينجز كل شيء، يحزن الغد.
■ ■ ■
الأزهار التي بلا عطر مدينة باسم الأزهار للأزهار العطرة.
■ ■ ■
أعتقد أن أول أجمل عيون، كانت العيون التي بكت لأول مرة.
■ ■ ■
قبل أن أجوب دربي، كنت دربي.
■ ■ ■
الأشياء الصغيرة هي الخلود، والباقي، كل الباقي، هو العابر، العابر جداً.
■ ■ ■
هي أكثر أزهاراً من كل الأزهار مجتمعة، الزهرة الواحدة.
■ ■ ■
لا أحد نور نفسه: ولا حتى الشمس.
■ ■ ■
لو لم يكن الوجيز موجوداً، لما وجدت الأزهار.
■ ■ ■
لو كانت للإنسان أجنحة لانحدر أكثر.
■ ■ ■
في كل شر ثمة قليل من الخير. وهذا القليل من الخير، آه كم هو خير!
■ ■ ■
نعم، هذا هو الخير: الصّفح عن الشرّ، ولا وجود لخير آخر.

(*) أنطونيو بورتشيا: لا تملك شيئاً وتهديني عالما!/ أنا مدين لك بعالم، ترجمة: أحمد لوغليمي، منشورات بيت الشعر بالمغرب، 2020.

شعر
زينو بيانو: تشيتْ بيْكرْ، مرثاة (*)
ترجمة:جمال خيري


يلج الشاعر الفرنسي زينو بيانو فضاءات لمْ تطأها قريحة من سبقه ومن يزامنه، يغترف ما يغيب في باطنها دون تخطيط مسبق، يقترف الجديد، يتمادى في أبعد ما يحجبه المدى وكأنّه صوته حباله تخطّه ممغنطاً بالكهربة ينبر الشّعر محلّقاً في سماء بأنامل الإصاخة. عصا لسانه تقرع طبلة أذنه فتحمل نبضه الهادئ المواقع والموازين إلى عوالم لا تنكشف إلّا بسنا الموسيقى وسنن الصّباغ. لذا شعره يقتحم بالسّكينة، ويهشّم بالحلم.
لا يسائل فهمنا بشعره، وهذا إن كان الشّعر ليفهم، أو ليس ينبوعاً يروّي الحاضر كي يبرعم فينا الشّعور بالمستقبل؟ لا يسائل الفهم إذن، بل يضعه موضع السّؤال بالشّعر، والشّعر معه. ليس بالعويص وليس بالمطاوع، كما كلام المجهول والمهجّر، كالهجيج، يأْتي يلتهم ما مضى لصنع الآتي، من خفيّ النّفس ويتجلّى خارج الرّأس حاضراً، لا يلمس إلّا ببؤبؤ الحدْس، ولا يرى إلّا عبر بصمات البصيرة. يقرأ بحليمات الإصغاء مثلما كتب بقوقعة الذّائقة.
فالشعر عند زينو بيانو، كما يقول المترجم، ليس صراخاً في القفار، إنّما هو رسم الجغرافية الذّهنيّة للأرض، وكلّ ما ليس مخترقاً بالشّعر، فهو خارج نطاق الحالة الطبيعيّة، طارئ، زائل، هامشيّ ليس إلّا.
كأن منحه آنطونان آرتو رقية الشّعر، الكتابة القوليّة... واللّغة عند آرتو كالرّقية، كتابة جهيرة جاهرة تعتمد النفس والإيقاع بالتحدّر في الدواخل، بالذهاب دوماً إلى القصيّ، بالتّغلغل في الأعمق. فالشّعر بالنّسبة إليه، بيانو أقصد لا آرتو، فكرة تتغنّى ولو في قلب فقدان ما كان يتمنّى. إنّه قياس القصيدة على النّفس حيث جسد الصّوت يتجلّى.
وليس آرتو وحده منْ ساهم في صقل شاعرنا بيانو، بل رامبو كذلك وكرْواك، وموسيقى الرّوك والجاز، ومايو 68، وشعراء اللّعبة الكبرى: غنيه دمالْ ورجيه جيلبيرْ لكونت ورجيه فيّون وروبيرْ ميْرا، ثمّ السّفر إلى الهند والتّيبت، وروايات الصّبا، روايات جول فيرن أو دانيال دفو مثلا، ثمّ الهايكو والتّشكيل والمسرح والتّرجمة، مثلا لا حصرا.
وتراه شابّاً منْ بين موقّعي البيان الكهربائيّ (صدر عن منشورات «الشّمس السّوداء» سنة 1971)، الطّافرين بالشّعر، بالاشتغال الشّعريّ ممارسة لا تنظيراً، بعيداً عن صمت القصيدة أو قصيدة الصّمت التي كانت جاثمة على صدر الشّعر الفرنسيّ تخنق نفسَه. بالقصيدة، قصيدة الشّاعر الواحد أو الشّاعرَين، أو حتى الأربعة، ألّفوا البيان، شعراً لا بالنّثْر، هو وصحابه الخمسة عشر شاعراً، يتراوح عمرهم آنذاك بين العشرين والخمس والعشرين سنة.
ليس شاعر الغبطة الفائقة بل شاعر الطاقة، الطاقة اللولبيّة التي لا تنشط إلّا بالضغط المستمرّ وبالمغنطة الجاذبة، طاقة منفتحة على العالم مصيخة إلى هزّات واضطرابات الأرض بما فيها وعليها وحولها، تجعل الكلمات عبر الجناس والطباق مثلاً، ومن خلال التنقّل بين التكوين السونيتيّ وبصمات الهايْكو والتقطيع الثلاثيّ، تجعل الكلمات تقول ما لا تستطيع قوله عبر تدفّق غنائيّ حرّ. إنّه شاعر يرفرف بزفيف دائم في السّموات الجوّانيّة يسائل الشعر والموسيقى، التشكيل والمسرح، الشرق والغرب، الكون والإنسان.

لم أعدْ أعرف أين وصلت
منذ ساعات وأنا أتحدّر
ساعات شهور سنوات
لم أعدْ أعرف
أين وصلت
يبدو أنّ السّماء قد ارتجّت أبوابها
أتبصّر في الأطفال
يرسمون فراشات
على جدران المخيّمات
ليطيروا مرّة أخرى
أبعد من الموت
طيوراً-أرواحاً
طيوراً-أرواحاً طيوراً-أرواحاً
دون عياء دون فناء
■ ■ ■
أتبصّر أتبصّر
أتبصّر في عمق العزلة ذا السّحيق
الذي لم يفارقْني أبداً
في كلّ ذي الأتاويه
في قلب اللّيل
كي أولد من جديد
في هذا الليل
الأطول من الليل
حيث لاشيت
حظّاً وفيراً من سرمديّتي
■ ■ ■
موسيقاي كانت طقساً على الدّوام
طقساً للصّعود إلى السّماء
ولكن ها أنا أنزل
تحت الأجرام
ها أنا أخاف أنْ أتجمّد في جهنّم
أنا
الذي كنت أريد ألّا يغمى عليّ أبداً
لكم أصخت إليها
الخافتة
المذهلة همسات الفضاء
■ ■ ■
لكم أصخت إليها
كي أدفق أحسن
كي أتحلّل أفضل
في رغبة تجسّد عارمة
لكم أصخت إليها
إلى منتهى الصمت
لكمْ عرضتُ العالم
في ناظريّ
لأجعله يتفتّح
الهوينى
لكي ألتقط جوهره
لكي لا أضلّ الشّمال أبداً
أو لكي أفتقده إلى الأبد
(*) زينو بيانو: تشيتْ بيْكرْ، مرثاة، ترجمة: جمال خيري، منشورات بيت الشعر بالمغرب، 2020.

قصيدة
لينا ثيرون: فراشات أرجوانية (*)
ترجمة محمد العربي غجو


كنت بذرة شمس
زرعت في الأرض
ولدت من إعصار ماء
بين الغبار الكوكبي
وصراخ الألوان
كنت أودّ أن أولد
فراشة أو عقاباً
أن ينمو بجسمي
ريش ذهبي
لكنني
ولدت شجرة تين
بجذور عظيمة
ونبتت لي غصون
ومن الغصون
تفتقت أوراق
ومن لحائي
ولدت عيون
ومن أوراقي
تبرعمت حمامات
(*) قناديل الروح، منتخبات من الشعر الهيسباني، ترجمة: محمد العربي غجو، منشورات بيت الشعر بالمغرب، 2020.

شعر
نبيل منصر: كتاب الأعمى (*)


يدي العمياء
منحتها للأعمى

قدم تضرب في التّيه

وذكريات صغيرة
تتدلّى كوطاويط مفتّحة العيون
من
حبْل
المنتحر
■ ■ ■
هو الأعمى،
أنا النفس
أحرّك العتْمة
بحدْس فراشة
تقتات على الضّوء

أنا الأعمى،
هو الماء يجري
دافقاً منّي إليه
جارفاً روحي مثل بقرة وحشيّة
داهمها العطش.
■ ■ ■
الوردة المتوحّشة
تتفتّح بداخلي

قدماي تسعيان
بدأب دودتين
تقتاتان من ورقها الأحمر
الذي يلفّ جذْعي.

النمل الذي يقرض روحي بلا انقطاع

يتراءى لي عند الفجر
ساعيّاً بقطع من النّدى
فوق جلد الأشياء.
■ ■ ■
الضّفدعة
جارة الأعمى
بهذا
الوادي السّحيق.
■ ■ ■
أمشاج الحياة
التي سقطنا منها

سقطتْ منّا:

شذرات طين
فسيفساء ماء
وقبس نار

الأعمى يلملم فخّاراً يمشي إلى النبع
بعنفوان غزالة،

أنا أرمّم قدماً تسْتوي واقفة
كما يقف الذئب على هضبة
باعثاً عواءه مع النّسيم.
■ ■ ■
الساعة
المرمية على الرمل مثل سكّين

الساعة
الساقطة من أغنية الريح

الساعة
الواقعة من صلاة الغيم

الساعة
المحدّقة في بياض الثلج
■ ■ ■
الساعة
المتعثّرة بدابّة الأبدية

الساعة
المخشخشة مثل نمر يفتك بغزال على العشب

الساعة
النازفة من رجل الأعمى

جميعها،
تشهد واحدة واحدة، كيف خاط الغيب قميص الدنيا
ودس فيه العويل.
■ ■ ■
خذوا عيْنيّ
قولوا تذكاراً من الأعمى

بهما رأيت حوريات يحملن جرار الماء
بهما رأيت النمل يهرّب ميّتات الحشرات
بهما رأيت ناب الخنزير
بهما رأيت سقراط يتجرّع السّم
بهما رأيت شبح هاملت
بهما رأيت المدْية التي فتكت بالمتنبي
بهما رأيت العنكبوت الذي خبّأ غار النّبي
بهما رأيت نمر بورخيس المخطّط
بهما رأيت العصفورة تفلّي ريشها، تحت شمس باردة
■ ■ ■
بهما رأيت السيّاب يصيح بالخليج
«يا واهب المحار والردى»
بهما رأيت بسوا يدوّن صفحات من كتاب اللاطمأنينة
بهما رأيت كوميديا شابلن السوداء
بهما رأيت باول تسيلان يحيا بزعانف حمراء
بين طحالب النهر
بهما رأيت يونس في بطن الحوت
بهما رأيت النار تبرد والماء يغيض والطين ينتصب أعمى
بهما رأيت اليد ترمي الطفل بين أشياء القمامة
بهما رأيت المرأة تهوي من الشرفة
بهما رأيت الناس يحملون صناديق الزيت وأكياس السكر

بهما رأيت ما رأيت

خذوا عينيّ
ربما
كنت أقلّكم حظّاً!
(*) نبيل منصر: كتاب الأعمى، منشورات بيت الشعر بالمغرب، 2020