كانتا تَقِفَان أمامَ الرُّكام وبجانبهما كُرْسِيَان، حَسِبْتُ أنّهما تنتظران، أوقَفْتُ السيّارة، قُلْتُ: تَفَضَّلا.قالتَا: لا، نحن نجلسُ أمامَ بيتِنا!!
لمْ أستطعْ المتابعة، ترجّلتُ، سألتُهُما وأنا أنظرُ إلى ركامِ الأسطحة المتراكبة:
أيْنَ يَقَعُ بَيْتُكُم؟


فقالتا: هناك، في الطابق الثاني، وأشارتا إلى فضاءٍ يَعْلُو الركام.
لا شيءَ في الوجود سوى الجوهر والصورة والتحوّل.
أتى التحوّل مفاجئاً، أسرع مِنْ أن تَجِدَ الذاكرةُ ما تَسْتَنِدُ إليه، فَتَشَبَّثَتْ بالصورة المتحوّلة هناك.
أتى التحوّل خَلَأً في مرآة الوجود.
■ ■ ■

تَحْتَضِنُ المقبرةُ الجماعيّةُ طائفتي المدينة، وتقعُ في مكانٍ كادَ أَنْ يكونَ خَطَاً فاصِلاً بينهما!
الرّحْمَةُ تَسْري في كلِّ أسمائي
اختلافاتُكم مِنْ تَجَلّي اسميَ (الواسِع)
ظلالُكُم تَتَّسِعُ بِثَرَاءِ أفكاركم
هناك حيث أَرَدْتُم أَنْ تُثْبِتُوا اختلافاتِكُم خِلافاً
أَثْبَتُّ جَوْهَرَكُم، أثبتّ اسمِيَ (الله) الجامع.
■ ■ ■

اخْتَزَنَتْ الحِجارَةُ مَشَاعِرَ البشرِ
تَأثَّرّتْ بأفراحِهِم وأحزانِهِم، بِسَخَطِهِم ورضاهم.
غدَت الحجارةُ رُكاماً
امتزجَ الفرحُ بالحزنِ، والسخطُ بالرضى!
معالمُ المدينة والمشاعرُ كلاهما مُسْتَغْرَقان في الرُّكام
وأمامَه
وَقَفَتْ العيون على بابِ الأزل
في تلك النقطة التي لا تَمَايُزَ فيها
في تلك النقطة التي انْتَثَرَ منها الكونُ بعد أَنْ كان مُسْتَغْرَقَاً في الوجود المطلق.
■ ■ ■

جَلَسْتُ إلى جانبها
فراشةً مُكَسَّرَةَ الأجنحة
كانت قد فَقَدَتْ زوجَها وابنَها.
قالتْ: لمْ أقدر، لم أقدر على حمايَتِهم!!
ومِنَ العينَيْن ذابَتْ الروح.
نحن ظلالٌ في مِرْآة وجودِكَ
يا الله،
لَكِنَّ أَلَمَنَا أكبرُ مِنْ أنْ يِحْتَمِلَهُ ظِلّ.
■ ■ ■

انهارَتْ الأبنية
المدينةُ ما تزالُ صامدةً
تَتَرَقّبُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ تحت الأنقاض طبيبُها الذي خاطَ محبَّتَها، وطبيبتُها التي وَهَبَتْ تلك المحبَّةَ ابتسامةً.
وعندما خرجا كانا قد تَعَانَقَا وَرَحَلا
عندها
انهارَتْ المدينة.
■ ■ ■

ما يزال يراقصها
تَمْتَدُّ يدُه حولَ خَصْرِها
أمنيةً تَنْثَنِي على طَرَاوَتِها ولا تَتَحَقّق
ولا تكون إلّا هِيَ
أمنيةً تأخذُهُ وتأخذُها
يَنْحَنِيان ثم يَنْحَنِيَان
يَسْتَحيلان غباراً يرسم انحناءات الريح
ضياءً يرسم انحناءات الكون
يستحيلان قابَ قوسَيْن
أو أدنى
أو يَنْتَثِران
أو يَتَهَامَسَان بِسِرّ التحوّل فَيَبْقَيان آناً فآن.
■ ■ ■

ما يزال يُراقصها
وَتَرُ العودِ مُزْدَوِجٌ
وَتَرُ العودِ وَتَرَان
ومِنَ العلامة ذاتِها تُوْلَدُ نَغْمَتَان
وهما يُسَرْمِدان ما بين النغمة وذات النغمة إذْ الوتران يَتَنَاهدان.
ينحنيان ثم ينحنيان
وما يَدْريان
أَيَغِيبُ ذاك اللحنُ أمْ يَغيبان.
■ ■ ■

أنا الذي أَنْحَني ثم أنحني ثم أَرْتَمِي
انحناءةً تَسْجُدُ للمُطْلَقِ
امتِدَادُها العدم.

* سوريا