1- تعالوا نشتري مَقبرةً واسعةًلكي ندفنَ فيها هزائمَنا
الثوراتِ التي تركناها مُعلقة
على الجدران مع الأموات
فجفَّفها الحنينُ إلى الثمار،
القبلاتِ التي اشتهيناها
لكننا لم نتذوَّق طعمها أبداً،
الغاباتِ التي حلمنا بها لكننا لم نزرْها.

روبي دواي أنطونو ـــ «جنّاز» (قلم رصاص وزيت على كرتون ـــ 22.9 × 38.1 سنتم ـــ 2020)


تعالوا نشتري مقبرةً
لندفنَ فيها البيوتَ الثمينةَ
التي لم نستأجِرها،
والقطاراتِ السريعة التي لم نستقلّها،
السفنَ التي لم نعبرْ ـ على مَتنِها ـ أيّ مُحيط،
والغرفَ الفاخرةَ التي لن نسكن فيها،
والبالكوناتِ
خصوصاً تلك التي لم نعرف طلّتها أبداً
البالكوناتِ الواسعة جداً
من طول بقائها أمام البحر.

تعالوا نشتري مَقبرة
للأطفالِ الذين لم نُنجبهم،
ولن نمدّ أذرعَنا يوماً لنُنقذهم،
للابتساماتِ التي جعّدت وجوهنا،
ولم تعُد إلينا وداً وحناناً،
إلى اليوم،
للطائراتِ التي عبرت سماواتنا دوماً
ـ وربما أيقظَنا هديرُها من النوم ـ
الطائراتِ التي لم نتمكَّن
ـ مرةً واحدةً ـ
من العبورِ بها
إلى بلدانٍ بَعيدةٍ وسَعيدة.

تعالوا نشتري مقبرة واسعةً جداً
ربما تتّسعُ لكلِ ما فقدناه في الطريق
مقبرةً لا تتمدد في نهاياتِ المدن
مثل تلويحةٍ أبديةٍ للوداع،
بل منامة أحزانٍ هائلة،
تتسع لكل الفرص الثمينة
التي أفلتت من بين أيدينا،
ولن نستطيعَ تعويضَها أبداً بعد ذلك
تتسعُ لكل هذه المهنَ التي لم نعملْ فيها
والنقاباتِ التي لم يكن لنا فيها
أيّ تاريخٍ من النّضال.

2- بعدما أموتْ
لا أريدُ
بعد أن أموتَ
أن أتحوَّل إلى «مانيكانٍ عجوز»
يقفُ وحيداً وراء الزجاجِ
كشبحٍ محشوّ بالقطن
خرج لتوِّه من الخدمة،
ليُمثِّل دورَه الأخير
في ذلك الفراغِ الملوّن
الذي تملأه البالونات.

لا أريدُ
بعد أن أموتَ
أن أُصبحَ «ساعةَ حائط»،
تنامُ في مكانِها عُمْراً كاملاً
من أجل أن تُحصي النّدم،
مع كل تكّة تمرّ من العُمر،
لدرجةِ أنها
قد ترى اللصوصَ يدخلون خائفين،
ولا تستطيع
ـ حتّى ـ
أن تهشَّهم.

لا أريدُ أن أكونَ
نافذةً واسعةً
وسط المقابر،
حين أشرب أرتوي من دموعِ الحزانى
وحين أجوع
لا آكل إلا من خُبز «الأرواح».
...
إن كان ولا بد
أن أكون شيئاً
بعد أن أموت،
أتمنى أن أصبحَ عصفوراً نيلياً صغيراً،
يبني بيتاً هشّاً
فوق الشجرة العتيقة،
التي تُلقي برأسِها في النهر،
لأرى
ـ حتى وأنا أموت ـ
آخرَ قطرةِ ماء
أرسلتها العنايةُ الإلهية
وهي تذوبُ
عائدةً
إلى أمّها الأرض.

3- مثل حِفنةٍ من الغبار

قريباً
سوف يحملنا الهواء
ـ مثل حفنة من الغبار ـ
إلى بعيد.
■ ■ ■
أخشى ما أخشاه
أن يزدادَ طولاً
ذلك الصف
ـ الطويل جداً ـ
من الدموع
التي
لم
أذرِفْها
بَعد.
■ ■ ■
لا أحب أن أكون من هؤلاء
الذين يملكون البيوت،
بينما تلمع المفاتيح
ـ كالكلاب الوفيّة ـ
في أياديهم.

أنا
ـ والحمد لله ـ
من هذه الطيورِ الشقية،
التي تحملُ أعشاشَها
ـ بين فكّيها ـ
وتمضي.
■ ■ ■
العمرُ الطويلُ لك،
هكذا يقولُ الناس،
لكن لا أحد يستطيع أن يفهم
كيف ابيض شاربك من هولِ الكذب،
ومنذ متى وهو هكذا..
سحابةُ بيضاء لا تُمطر إلا في فَمِك.
■ ■ ■
هذه ليستْ نجمةً
عالقةً في سماء الله المظلمة،
هذه دمعة فضية
علّقها الحنينُ
في ذيلِ القمر.
■ ■ ■
أحياناً
أخبّئ الأيامَ في الكتب،
ثم أدفنها تماماً في الأحلام،
كجملةٍ فعليَّة مرَّت
ـ بالخطأ ـ
أمام حادثٍ عظيم.
■ ■ ■
طويلٌ
وصدئ..
مثل مفاتيح البيوتِ القديمة،
هذا العُمر الذي أحمله على ظهري.

* مختارات من ديوان الشاعر المصري «بَشَرٌ بأحجامٍ دقيقة يكبرون في تجاعيدي» (منشورات المتوسط)