ترجمة: مصطفى مجاهدماريو بينيديتي أبرز كتَّاب الأورغواي بعدَ مواطنه إدواردو غاليانو. ميزته أنَّه، على العكس من رفيقه، متعدِّد المواهب، إذ كتبَ في كلِّ الأجناس الأدبيَّة. ولد في مدينة باسو دي لوس توروس عام 1920. انتسب إلى الحركة الأدبيَّة والفكريَّة «جيل 45 »، التي استقطبت جلَّ قصاصي الأميركيتين الوسطى واللاتينية آنذاك، وكان من أبرزهم كارلوس أونيتي وروا باسطوس. كما أسهم في تأسيس موجة ما صار يسمى في ستينيات القرن الماضي بـ «الأدب الأميركو لاتيني الجديد» مع ماركيز، كورتاثار، يوسا، فوينتيس ورولفو. اشتغل محرِّراً في جريدة «مارشا» الأسبوعية الواسعة الانتشار في مونتفيديو. خلال فترة الحكم العسكري في بلاده، عاش لاجئاً في الأرجنتين (1938-1941). وفي عام 1973، يُرغَم مجدداً على عيش تجربة المنفى لمدة 12 سنة، متنقّلاً بين الأرجنتين، كوبا، البيرو وإسبانيا. مع عودة الفاشية العسكرية إلى الحكم في بلاده (1973-1985)، أُجبِر على المنفى من جديد. نحن هنا أمام حالة فريدة لكاتب لم تغيِّر هذه الهزَّات قناعاته اليسارية أبداً، بل ظلَّ يدافع عنها حتى عندما تخلَّى عنها أقرانه، وفضَّل دوماً العيش في بلده كلَّما توفَّرت فيه أدنى شروط الاستقرار والحرية. حاز بينيديتي العديدَ من الجوائز وتوفي في مونتيفيديو عام 2009. من بين أعماله، في القصة القصيرة: «هذا الصباح» (1949)، «بالحنين أو بدونه» (1977)، «بريد الوقت» (1999). وفي الرواية، نذكر: «من منا يستطيع أن يصدر حكماً» (1953)، «الهدنة» (1960)، «شكراً» على إشعالك سيجارتي (1965)، «ربيع في مرآة مكسورة» (1982)؛ وفي الشعر: «المنزل والحجر» (1977)، و «دفاع عن النفس» (2004).
يستند الكاتب، في هذه الرواية التي اجتزأنا منها فصولها الأولى للقراء، إلى التكنيك السردي المتمثِّل في تنويع زوايا رؤية نفس الحدث من طرف شخصيات ساردة مختلِفة، ضمن ثيمة مثلث الرغبة: ثلاث شخصيات تُبَوَّبُ بأسمائها فصول الرواية، بثلاث وجهات نظر حول حكاية تنسج تاريخ سوء الفهم في قصة حب: ميغيل، أليسا، لوكاس. شخصيات تحكي رغباتها المكبوتة وأسفها إزاء سلطة الحب، وارتهانها لسوء فهمها للذات في علاقتها بالعالم. تتداخل العوالم النفسية للشخوص وإدراكها لمزالقها السلوكية. يصف بينيديتي بصدق محيّر أفعال ومواقف شخصياته، وكذا مخاوفها وتناقضاتها الذاتية والموضوعية في علاقاتها المتشعبة، المحاكة بالشكوك والتوترات والحنين، والمرتبطة بالأحداث، من خلال إعادة بناء لما كان قصة حب فاشلة بين أليسيا ولوكاس. تتميز هذه الرواية القصيرة والمثيرة في شكلها الأصلي، بجمالية على مستوى أسلوبها الشعري وذائقتها الفنية العالية. إنّها تحفة من الفروق الدقيقة التي شيّدت بذكاء وعمق ملحوظ. تبدو الحياة مليئة بالإخفاقات المثيرة، والوجود الذي استطاع أن ينجو من فخّها بالحب ووهمه اللذيذ، ضد يباب العواطف وحرارة اللقاء المؤجل، والحلم الذي ينتظر نهاره المستعاد بالكلمة.

I

اليوم فقط، بعد خمسة أيام، أدركت أنني لست واثقاً من نفسي بعد الآن. مع ذلك، فإنه في يوم الثلاثاء الماضي، عندما ذهبت إلى الميناء لتوديع أليسيا، كنت مقتنعاً بأن ذلك هو أفضل الحلول. في الواقع، كنت أرغب دائماً في ذلك: أن تواجه ندمها، وطريقتها السيئة في تأجيل ما كان يمكن أن تكون عليه، وحنينها إلى ماضٍ آخر، وبالتالي إلى حاضر آخر. ليست لدي أدنى ضغينة، ولا يمكنني الشعور بها، لا نحوها، ولا تجاه لوكاس. أودّ فقط أن أعيش في سلام، بعيداً عن هذا النوع من الأشباح الذي يحضر في عملي، في حياتي وجسدي. في المساء، بعد العشاء، عندما نتحدث عن مكتبي، وعن الأطفال ومدبرة المنزل الجديدة، كنت أعلم أنها ستقول لنفسها: «يمكن أن يكون لوكاس بجانبي بدلاً منه. مع لوكاس، على الأقل، لن نحتاج إلى الحديث».
في الحقيقة، لقد كانا دائماً متشابهين. كانا يتشاركان الاهتمام ذاته في أشياء معينة - حتى عندما كانا يتشاجران بطريقة عنيفة، ويلجآن إلى صمت طويل - ويتصرفان باتباع هذه المشاركة العفوية التي تحاصرنا جميعاً (الأشياء، الأصدقاء، العالم) بعيداً منهما، في اللامبالاة. فأنا وهي نشكل بإصرار تركيبة أخرى، حيث كنا بحاجة إلى التحدث. إن حماية الصمت غير موجودة بالنسبة إلينا، بل أود أن أقول إن حديثنا حول التفاهات الشخصية أو غيرها، يحمينا من هؤلاء البيض الرهيبين، خلال ميلنا إلى النظر لبعضنا البعض، والهروب من أعيننا، حيث لا ندري أثناءها ماذا نفعل بصمت الآخر. فخلال هذه الفترات، يكون وجود لوكاس أمراً لا يطاق وكل إيماءاتنا بما فيها الأكثر اعتيادية - النقر بأطراف الأظافر على الطاولة، والضغط على المفاصل من أجل طقطقة الأصابع - أصبحت استعمالاً مضمراً، من كثرة تجاهل حضورنا، ينتهي بها الأمر بوضع خط تحتها، ومنحها مصداقية مؤلمة، تتجاوز الجسد، في شحذ أذهاننا.
عندما أرى أديليتا أو مارتان يلعبان بهدوء فوق السجادة، وأنها تنظر إليهما أيضاً، وترى، كما أراها، كظل من الابتذال الذي يجعل وجههما الصغير شبه المثالي، قبيحاً، أعلم أنها تقامر أكثر أو أقل وبوعي الضوء الداخلي واللمسة الفكرية التي يمكن أن تتمتع بها هذه الوجوه، لو كانوا أطفال لوكاس وليسوا أطفالي.
على الرغم من كل شيء، فأنا أحب الجانب المبتذل لأطفالي، كما أحب حقيقة أن لا يلقوا قصائد لا يفهمونها، وأن لا يطرحوا أسئلة حول مواضيع لا تهمهم، وأن لا يتأثروا إلا بأشياء مباشرة آنية، وأنه لا الموت ولا الروح، ولا الأشكال المنمنمة للوجدان، لها أهمية لديهم. وسيكونون، واقعياً، وقحين في أسوء الأحوال (أفكر خاصة في مارتان)، لكنهم ليسوا متبجّحين، ولا أصليين بأي ثمن، وهذا يرضيني، حتى لو كان عليّ الاعتراف بحماقة وجبن هذا الانتقام الخجول والعقيم.

II

الأسوأ من ذلك كله، أنني لا أشعر بأدنى قدر من الكراهية التي ستكون بالنسبة إليّ خلاصاً. وأحياناً أندم على ذلك، وأحكم عليها كنقيض للسعادة. لكنهما كانا على صواب جداً معي، لقد أقاما، بالاتفاق المشترك وغير الواعي، قانوناً صارماً للتخلي لدرجة أنني أضع نفسي في الكراهية، والتي ستكون أسهل طريقة في عيونهما كشخص بغيض بشكل لا يمكن إصلاحه، سيصيحان، إذا زرعا أمامي كل الابتسامات: «لقد جعلناك زوجاً مخدوعاً، أيها العجوز».
أعتقد أني أستطيع أن آمل أنه إذا مارسا الجنس يوماً ما، فسأتنحى جانباً قبل فترة طويلة، كما أنني مقتنع أنهما يتمنيان لو جاء يوم ما لا أستطيع تحملهما أو تحمل نفسي فيه، لكي أخبرهما فقط بأن الأمر انتهى، بدون أن تكون هناك حماقة يمكن مناقشتها. في هذه الأثناء، حتى لو لم يكن يبدو كذلك، فإن الأمر يشكل توازناً حقيقياً. تقدم أليسيا، بطريقة حانية ولطيفة، المداعبات التي نطلبها منها، أنا والأطفال. لكن الأمر يشبه إلى حد ما كما لو أننا صنعنا هذا الرابط مسبقاً، وكأنها قامت بتبنينا، وأنها الآن تجهل، أين يمكنها أن تتخلى عنا، ولمن تَعْهَدُنا. وبما أنها تحاول إخفاء ما تقدمه لكي تبدو طبيعية، فأنا أشكرها، كما أنها تشكرني بدورها جراء شكري لها.
من جانبه، انسحب لوكاس بتكتم من مكان الحادث، ولكن ليس بالشكل الكافي، لكي يصبح غيابه موضع شك. لهذا يكتب لنا رسالة كل أسبوعين، حيث يخبرنا بالتفصيل عن حياته كصحافي، ومشاريعه الأدبية، وعمله كمترجم. ذلك هو السبب الذي جعلني أكتب له بدوري رسالة كل أسبوعين، أعبر له فيها عن رأيي السياسي، وتذمري من وظيفتي، وتفاصيل حول التحسن المدرسي لمارتان وأديليتا، رسالة تنتهي دائماً ببضع كلمات أليسيا على الهامش: مشاعري اللطيفة لصديقي لوكاس.

III

كثيراً ما كنت أتساءل عن نفسي في صفحات هذا الدفتر. ومن أجل قول الحقيقة بدقة، انتهى بي الأمر إلى تقييد طموحاتي. في وقت ما، اعتقدت أنني ذكي، ذكي جداً، كان ذلك في فترة حصولي على نتائج استثنائية بالمدرسة الثانوية، حيث يعلق والداي، للحظة، صراعهما المستعصي، بالنظر إلى بعضهما البعض، وهما راضيان عن نفسيهما، ويقبلانني، وهما مقتنعان بأنني سأجسد استثماراً جيداً. ثم جاءت لحظة التوقف عن الدراسة، من أجل وضع ما تعلمته ببراعة، موضع التنفيذ، وأظهرت نفسي تماماً أني غير قادر على إجراء أي تقييم، والاحتفاظ بأدق الحسابات، أو الاعتراض على أحد بنودها. وبالطبع، مع مرور الوقت، انتهى بي الأمر إلى اكتساب هذه المهارات، لكني لست مديناً بذلك لذكائي الهابط، وبالأحرى إلى ممارسة عنيدة وشاقة. كان هناك وقت أيضاً، كنت أعتقد فيه أنني قادر على اختبار وتذوق إحدى الهوايات المذهلة التي تبرر وحدها حقيقة الوجود. ظننت أنني شعرت بها مرتين أو ثلاث مرات تجاه النساء المسنات اللواتي من المتوقع أن يعاملنني كطفل، وإظهار اهتمامهن أكثر تجاه نظرياتي بدل هطول المطر. وقد أزعجني ذلك كثيراً لدرجة أنني ابتعدت عنهن، على أمل مضاعف في جذبهن نحوي، ثم صدّهن. لا واحدةَ منهن، بالطبع، أخذت الأمر بشكل مأساوي، ولا أنا كذلك، حيث ينتهي بي الأمر إلى نسيانهن. بعد فترة طويلة، أدركت أنّ أياً من هذا لم يكن موجوداً، وأن ما يسمى، بشكل عام، بالشغف، تتم إذابته قبل أن تطالب به أي من هؤلاء النساء. ينطبق هذا أيضاً على أليسيا.. لكن حكايتي معها أكثر تعقيداً، وبدون شك، يكون من الأفضل معالجتها بشكل منفصل.
لذلك، بعد أن فقدت الأمل في الاعتقاد بأنني ذكي أو شغوف، لا يزال لدي ذلك الذي يعتبر أقل غروراً، ويعلم أني صادق. هذا هو السبب الدقيق الذي جعلني أشرع في إعداد هذه المذكرات، وهي شهادة موضوعية أعاقب فيها نفسي على رداءتي. من المؤكد أن العالم يزخر بناس تافهين، لكن بالطبع، لا يوجد أناس مبتذلون يعرفون الوجود. فأنا أدرك ذلك. أعترف أيضاً أن هذا الكبرياء السخيف، لن يجلب لي شيئاً، إن لم يكن اشمئزازاً رهيباً من نفسي.
باختصار، من أين أتت تفاهتي؟ بماذا أو بمن يمكنني قياسها، ومقارنتها؟ حقيقة أني اكتشفتها في أفعالي، في نواياي، و حماقاتي، ولا يعني ذلك عداء موجهاً بشكل خاص ضد شخصيتي. في اعتقادي، لا يبدو الآخرون رائعين بالنسبة إليّ أيضاً - إن لم يكن وجود عدد قليل من الاستثناءات الافتراضية. بل أود أن أقول أكثر: يبدو أن الجميع تافه بالنسبة إلي، لكن ذلك لا يثبت شيئاً، إلا إذا كان يعبر عن تصوري للتميز الاستثنائي، والمذهل، وهو ما يعتبر عكس ذلك، لأنني أفترض أنه بعيد المنال. وبالتالي؟ وبالتالي لا شيء على الإطلاق.

IV

أخشى أن تملأ مذكرات يوم الأحد المزيد من الصفحات أكثر من المعتاد. لا تزال أليسيا في بوينس آيرس، بينما مارتان في السينما، في حين ذهبت أدليتا لزيارة جدتها. السماء الرمادية المنخفضة التي اقتحمت نافذتي، تبقى بدون فائدة أيضاً، إنها سماء بلا إله ولا شمس، كما أنها تسطيح ملحوظ لم يبهرني أبداً. بينما السماء الأخرى، المشرقة، المضيئة التي تمثل عطش الحياة، والأفلام الملونة، ما هي إلا بلاغ كاذب، إنها سمائي التي يجب أن أقبلها على هذا النحو. سأكتب طوال فترة الظهيرة، منغمساً في هذه العزلة المدهشة، لأنني أشعر بحالة جيدة، كما أحب تسوية أموري الشخصية، وأصبح على دراية بمعظم الملاحظات الأكثر أسى بشأني، باختصار، أن أعرف نفسي بشكل أفضل.
أحياناً، أتساءل عما إذا كان هذا القلق في استجواب ردود أفعالي الخاصة، لن يؤكد اعتقاداً قديماً لأليسيا: حقيقة أنني أناني في حالة العود. فبالنسبة إليها، يجب أن يكون هذا واضحاً بشكل ملموس للغاية، لدرجة أنها تعتبره من الأمور غير السارة لكي تعترف لي بذلك. إني أقدر لباقتها، ولطالما أعجبت بها، وبصراحة، فأنا أجهل ما إذا كان من الأفضل أن تكون غاضبة مني، وأن تهينني وتنفجر في لومي وشتمي، قبل أن تجهش بالبكاء. وفي نهاية المطاف، هناك حياة مختلفة بالخصام والبكاء، وشظايا من كل نوع، ستكون غير معتادة، وغريبة جداً بالنسبة إلينا. أتذكر كم فاجأني وجه أليسيا عندما مات والدها. لم أرها تبكي أبداً، خاصة في هذه الظروف، حيث فقدت هدوءها، واستسلامها اليائس، وعجزها الرهيب، الذي أضعف توترها المعتاد، حيث بدت حقاً كطفلة عزلاء، مستكينة بين ذراعي بشعرها الفوضوي الذي يخفي وجهها، تفيض بالمرارة. بالطبع، لقد كان مجرد خطأ، حيث أخذت السنوات الخمس الماضية، على عاتقها لتصحيحه، وقد أقنعت نفسي بأن الأمر كله كان مجرد فشل مؤقت، وخدعة لا يمكن تفسيرها، كما أنها غريبة تماماً عن جوهرها العميق.

V

إذا تمعنا جيداً، ربما تكون هذه فرصة رائعة للإخبار عن كل شيء، انطلاقاً من الحاضر الذي يكشف لي اليوم عن رغبات قديمة. والأسوأ من ذلك، عن غياب قديم للرغبة. ولكن من أين نبدأ؟ ما هي أولى ذكرياتي؟ ربما بدأ كل شيء قبل ذلك بكثير، عندما كنت ذلك الطفل الذي عجزت ذاكرتي عن تحريره. أشعر بغيرة شديدة من هذا الطفل، السجين في غياهب النسيان الرهيب، الضائع إلى الأبد، على الرغم من أنه يتجلى لي الآن في الصور المؤثرة، وهو يلعب مع الكلب، أو بلا حراك يرتدي بدلة بحار جديدة، يحمل بين ذراعيه، بشراسة، دمية دب، ولعب أطفال، مطبخاً وكرسياً.
وهناك، كما يبدو لي، يوجد السر، في هذه النظرة المتنافرة مع الرجل الذي أنا عليه اليوم.
(*) فصول من رواية بالعنوان نفسه، صدرت حديثاً عن «سما للنشر والتوزيع/ مقديشو ».