في مجموعتها الشعرية الجديدة «كأني هنا» (دار دجلة ــ الأردن)، تسقي الشاعرة الفلسطينية إيمان زياد نرجسة الروح بالشعر، فتبدأ مجموعتها كأنها تحاور تلك النرجسة كي يصفى قلبها. فلغة الشاعرة صافية، تتنقل بين الصور كأنها تتنقل في فلسطين، لتبدو أحلامها مضيئة أكثر، تماماً كما تذكر في إحدى القصائد، قائلةً «أجمع نصفي».يبدو الحب في قصائد إيمان عالماً صوفياً رحباً وعميقاً، فلا تظهر الصور المجازية إلا لغة شفافة، نرى داخلها الأشياء حقيقية، كأن الشعر هو دخول إلى تلك الأعماق لمعرفة الحقيقة، فاللغة هنا ماء نرى من خلاله مشاعر إيمان غارقة كما تسأل في قصيدة لها: «واللغة وأنت تصبها في كأس الشعر وأنت مسيّج بالعناق، كانت لمن؟»


تحضر المفارقة لكن بعفوية وجمال كأننا هنا نراقب ما يحدث في اللغة وهو الصدق، الصدق في جعل المشاهد تتحدث عن نفسها، تقول: «أول مرة صافحتني، تسرّب من بين أصابعي الرمل». هكذا تجعلنا قصائد زياد نفكر في الحبّ بطريقة مختلفة. هو عالم مفتوح على صور مشاعر صادقة لا يعرفها الواقع أحياناً، أو قد تبدو الصورة أحياناً قاسية، لكنها حاسمة وغير مترددة وصادقة، فتقول: «كرصاصة بك أستقر».
تنزاح أيضاً لغة الشاعرة عن السرد العادي، فتبدو حتى القصة مختلفة. نعثر على امرأة مختلفة تقول لحبيبها: «سأعقد بسلسلة ظهرك حبل مراكبي». كأنها هنا ليست تائهة، بل امرأة تقول ما تريد، تضع مراكبها في مكان الرجل الذي تحب.
يحضر الموت أيضاً لكن كعالم يُعد الشاعرة للولادة مرة أخرى، فنعشها قارب نجاة، ربما هو ذلك الشعور الذي ينقلها من عالم إلى آخر، عبر الشعر وحده. هو ذلك الانتقال إلى حالة تكون فيها الشاعرة واعية لما يحدث حولها، فترى كل شيء بوضوح كما تقول: «ضحكات الضحايا تزفني، وبلا عينين كنت أراهم».
تحضر بحيرة طبريا داخل قصائد الحب، فتقول في إحدى القصائد: «كثير علي وجهك هذا الصباح/ كبحيرة طبريا/ تبسط ضحكتك العذبة. كثير علي/ أن أحاول لمسك عذباً».
لا يغادر الغموض نصوص إيمان زياد المفتوحة على التأويل، لكنه يجعلنا نقف صامتين أمام دهشة مباغتة. هكذا مثلاً تتحدث إلى جرحها قائلة: «يا أيها الجرح المطل على دمي/ ما عاد يعني للجريد تأوهك». تخاطب إيمان غالباً الألم والعذاب والجرح، ولكن صورها الشعرية تخففها كأن الغموض رحلة نحو فهم الأشياء بطريقة أخرى ومحاولة استيعاب ما يحدث، فتسأل أحياناً: «من أنت؟/ غريب ينحل روحها بالعذاب/ ويكدم قلبها بالعذل فيرزق؟» هي مغامرة شعرية للبحث والكشف تفضي دائماً إلى الدهشة.
وفي شجاعتها أيضاً ونضالها اللغوي، تعترف لنا: «طفلي أشجع مني/ حين قتلوه برصاصة ساخنة/ ابتسم في وجه القاتل». هكذا ربما تعانق الشاعرة قوتها وشجاعتها حين تراقب ما يحدث لطفلها وللعالم من حولها بشكل عام. هكذا يكون الشعر، ليس فقط مناجاة لما يحدث معها، بل أحياناً محاكاة لما تراه حولها في الطبيعة. هي ترى الحبيب أحياناً في الزهور من حولها. تقول: «الزهور التي غرستها في غيابك/ نجحت على شكل جيد/ أريجها عطرك الصباحي/ على اتساع فمك تتشكل الأوراق/ متمردة وحقيقية جداً كأنت/ جذورها غزيرة كما تنبت في/ لا يبل ريقها الماء وحده دون الحنين/ وحين يستوطنها النحل/ تقطر قصيدة حلوة».
وهنا ترى الشاعرة الشعر في كل شيء حولها، في الزهور، في الحب والهجران والنسيان، وحتى في الزنزانة التي تكتب عنها قصيدة: «لا نوافذ في زنزانتي/ أنا الوحيدة نافذة مغلقة متخيلة/ وفي الخارج يرتاح على جسدي الكون». لا نعثر على المرأة أسيرة، فالشاعرة جعلت من الزنزانة عالماً واسعاً لأنّ رؤيتها أوسع من الزنزانة، وهكذا يجعلنا شعرها نطلّ على تفاصيل روحها، فهي لا تكترث بالسجون، وتنظر إلى نفسها أيضاً بأنها نافذة مغلقة على عكس الاعتقاد السائد بأنّ النوافذ المفتوحة هي التي تعطي الضوء.
لا تخاطب نفسها فقط بل في قصيدة تتحدث إلى «المعطوبة أرواحهن». تقول عنهن: «المتوجعات حد التمتع بالأنين»، فربما هي هنا تود أن تعانقهن بقصيدة أو أن تقول لهن: «أن في الروح والقلب ضوءاً
ما».
تخاطب البلاد كأنها مقيمة في لحظات الحلم والثورة والموت


هي واحدة منهن، لكن قصيدتها لا تقترح حلولاً أو تقدم رؤية لأن رؤيتها هو ذلك النظر الجميل إلى الأشياء ومعانقتها بطريقتها الجميلة. كأننا في قصائد إيمان نراقب ذلك الضوء الخافت الذي يضيء بسرعة المشهد كله في القصيدة. يأخذنا شعرها إلى النظر إلى الداخل لرؤية تلك الندوب التي تركتها الحياة في العمق. تخاطب البلاد كأنها مقيمة في لحظات الحلم والثورة والموت، فيحضر الحب دائماً كجواب على كل شيء لتقول: «على شفا بلاد تودعنا/ قبلتني وفضضنا العناق بتحية عسكرية/ كلانا يخضب صراطه بعيون مستعارة».
هكذا يباغتنا الشعر عندما يغير توقعاتنا عن الأمور، فنصادف في قصائد إيمان ذلك الضوء الذي يخرج من الداخل لا من الخارج.
كأنها دعوة إلى رؤية العالم كما تراه هي، ولأن الشعر يدعونا إلى النظر العميق إلى الأشياء، تقول إيمان في آخر المجموعة: «كمكعب ثلج بملقط النادل أنصهر/ النادل يغرق بلا وعيه/ وكذا أنا/ ثمة ماء يرشح من شفتي». يبدو أن الشعر يملأ قلبها بذلك الماء، أو أنه ذيل القط التي تقول له في آخر كلمات في المجموعة: عنقي معلّقة بذيل القط.