يطيح سانتياغو بوستيغيو بطمأنينة تاريخ الكتب ومؤلفيها، باختراع سيرة موازية لهذا الكتاب أو ذاك لجهة السعادة أو الألم، كمن يروي حكاية لم ينصت إلى وقائعها أحد بمثل هذا التوثيق قبلاً. سيعبث بالترتيب الألفبائي لرفوف المكتبات، ليستلّ بعض أشهر الكتب ويروي تاريخها السرّي بجاذبية لا تتعلق بالمحتوى بقدر عنايتها بحياة المؤلف ونزواته. في كتابه «حياة الكتب السريّة: ليلة قرأ فرانكشتاين دون كيخوت» (دار مسكلياني- ترجمة عبد اللطيف البازي) يتتبع مخاض وولادة بعض الكتب مخلخلاً خط سيرها نحو سرديات مضادة بمشهديات قصيرة تختزل أسرارها الخفية ومكابدات «مؤلفي الظلّ»، أولئك المجهولون الذين أنجزوا كتباً ليضع آخرون تواقيعهم عليها بكل صلف وخيلاء، كما فعل ألكسندر دوما مع أوغست ماكيه الذي كان يؤلف له رواياته مقابل مكافأة ضئيلة. كانت مخطوطة «الفرسان الثلاثة» الرواية التي حققت شهرة إضافية لروائي فرنسا الكبير الغارق في الملذات، واحدة من بين أكثر من مئة رواية تحمل اسمه، فيما بقي المؤلف الأصلي شبه مجهول.


في هذا السياق تُروى المفارقة التالية «ذات يوم، التقى ألكسندر دوما ابنه في الشارع وسأله: هل قرأت روايتي الأخيرة؟ فأجابه: أجل قرأتها. وأنت؟». على المقلب الآخر، يفضح صاحب «دماء الكتب» تاريخ محاكم التفتيش في منع الكتب وإحراقها، وموافقة الكنيسة في القرون الوسطى على إصدار دليل الكتب الممنوعة: «إن الهراطقة ما فتئوا ينشرون مزيداً من الكتب اعتماداً على الطابعة، تلك الآلة الجهنمية». كتب تحث على المروق مثل كتاب «لاثاريو دي تورميس» (1553) الذي لم تسلم من تهكّمه حتى «الثيران البابوية». سيبقى مؤلف هذا الكتاب الملعون مجهولاً إلى اليوم، إذ يُنسب إلى لائحة مؤلفين لا نهائية، بما يعني انتصاراً للأدب في المقام الأول، بصرف النظر عن دمغة مؤلفه الأصلي.
يتساءل سانتياغو بوستيغيو في مكانٍ آخر: «هل كتب شكسبير أعمال شكسبير؟». بالطبع ليست المرّة الأولى التي يطعن بعضهم بصحة نسب «هاملت»، و«الملك لير»، و«روميو وجولييت»، و«ماكبث»، وأعمال أخرى، لشكسبير. هنا تنسب هذه الأعمال للشاعر والمؤلف المسرحي الإليزابيثي كريستوفر مارلو برواية قصة عجائبيّة عن عراك خشن في حانة ينتهي إلى موت مفتعل لهذا المؤلف كي لا يُحاكم، فيهرّب بعربة إلى الميناء مغادراً لندن إلى أوروبا، ومن هناك كان يرسل نصوصه إلى صديقه، ولتبرير موت مارلو وقع اختياره على ممثل شاب اسمه وليم شكسبير ليوقع الأعمال باسمه. سيوافق شكسبير على العرض ما دام لا يملك ما يخسره. واقعة أم هذيان؟ هذا ما يحاول إقناعنا به مؤلف هذا الكتاب، نظراً إلى الشكوك التي تنفي قدرة شكسبير على تأليف كل هذه الأعمال العظيمة، وخصوصاً أنه لم يُعرف عنه أي تكوين معرفي. ما يثير الفضول حقاً، أن شكسبير لم ينشر أي عمل قبل عام 1593، سنة وفاة مارلو المزعومة.
سيحضر سرفانتس مرتين، وبصورتين مختلفتين، الأولى كسجين في أحد سجون أشبيليه، وهناك يطلب من حرّاسه تزويده بحصته الشهرية من الورق وريشة لكتابة الرسائل، إذ قرّر أن يكتب رسالة إلى الملك، لم يتلق ردّاً، فطلب حصة ثانية من الورق، ليكتب هذه المرّة رواية، وإلا سينتهي إلى الجنون لا محالة. لاحقاً، سيحمل هذا السجن لوحة تذكارية، كُتب عليها «في مجمع هذه الدار التي كانت سجناً ملكياً، سُجنَ ما بين 1597 و1602، ميغيل دي سرفانتس سافيدرا، وهنا ولد الفارس الذي أدهش العالم وأمتعه، النبيل العبقري دون كيخوت دي لامانشا». أما الصورة الثانية لمؤلف «دون كيخوت»، فتحضر في سويسرا أثناء زيارة الكاتبة ماري شيلي وزوجها الشاعر بيرسي بيش شيلي إلى بيت صديقهما اللورد بايرون، الذي فرّ من بريطانيا بسبب من نزعته الثورية، صيف 1816. كان عليهم أن يصرفوا الوقت بقراءة الأعمال الكلاسيكية، وأبرزها ترجمة بيرسي شلي لتحفة سرفانتس «دون كيخوت». هبوب عاصفة منعهم من مغادرة المنزل، فاقترح بايرون على ضيوفه مسابقة تتعلّق باختراع حكاية تندرج في روايات الرعب، لكن ما إن انتهت العاصفة حتى تجاهل الضيوف استكمال ما كتبوه في أدب الرعب وغادروا في رحلة إلى جبال الألب عدا ماري شيلي التي قررت إكمال ما كتبته في باب رواية الرعب، نقصد هنا روايتها «فرانكشتاين». سيكتشف النقّاد تأثرها بتقنية دون كيخوت وإحضار شخصيته في أحد فصول روايتها متوسلة التقنية السردية نفسها. هناك حكاية ثالثة تخصّ هذه الرواية، إذ قررت إحدى المكتبات الكبرى استخدام برنامج معلوماتي يحدد الكتب التي تستحق أن تظل على الرفوف من الكتب التي يجب سحبها «حسب معيار عدد النسخ المبيعة شهرياً»، فكان نصيب «دون كيخوت» إعادتها إلى المستودع، وفقاً لمؤشر المبيعات، لكن إحدى الكتبيات الخبيرات استثنت هذا الكتاب من عمل البرنامج، إذ لا يجوز وضع مثل هذا الكتاب الفريد في المستودعات.
رصد تاريخ محاكم التفتيش في منع الكتب وإحراقها


من جهتها، كادت جين أوستن أن تفقد الأمل بنشر روايتها الأولى «انطباعات أولى: إذ رفضتها أكثر من دار نشر، وبعد 16 عاماً على الرفض غامر أحد الناشرين بطباعتها، بعد تغيير عنوانها إلى «كبرياء وهوى»، وكاد دستويفسكي أن ينتهي إلى السجن بعدما تراكمت عليه الديون بسبب إدمانه على لعب القمار، لكنه سيعقد اتفاقاً مع ناشره بأن ينجز رواية جديدة خلال 26 يوماً، لسداد ديونه، فكان عليه العمل صباحاً على إنهاء سلسلة «الجريمة والعقاب» التي كانت تنشر أسبوعياً في صحيفة «المبعوث الروسي»، وفي الليل يتفرّغ لكتابة روايته الجديدة «المقامر» بمساعدة شابة تعمل في الاختزال، ستكون زوجته لاحقاً، وستجد الروايتان نجاحاً كاسحاً ما جعله يصرف أمواله بلعب القمار مجدّداً. «في الأعمال التخييلية كل شيء قابل للإصلاح» على هدي هذه الفكرة اضطر أرثر كونان دويل إعادة الحياة إلى رجل التحري «شارلوك هولمز» بعدما لقى حتفه إثر معركة حامية، استجابةً لرغبة طوابير من القراء الذين رفضوا مثل هذه النهاية. بعد تفكير وجد الوصفة المناسبة لبعث شخص ميت إلى الحياة بلعبة بوليسية حاذقة. سنستعيد هنا وصية كافكا بحرق مخطوطاته، إلا أن صديقه ماكس برود لم ينفذ رغبة كافكا، وإلا كنّا لن نتمكن من اقتفاء أثر أعمال خالدة مثل «المسخ»، و«المحاكمة»، و«أميركا». وفي المقابل اختفى عشرون دفتراً، وثلاثون رسالة، كان قد أودعها لدى صديقته درّة ديامون الملاحقة من «الغيستابو» النازي، فأثناء مداهمة منزلها، صادروا تلك الدفاتر والرسائل، ما شكل «أكبر لغز أدبي على مرّ العصور». مطاردة من نوع آخر، كانت من نصيب ألكسندر سولجينيتسين أيام الحقبة الستالينية، بعد نشر روايته «يوم واحد من حياة إيفان دينيسوفيتش» التي سمح خروتشوف بنشرها، لكن بريجنيف سيمنع كتبه اللاحقة: «يجب ألا يرى هذا المخطوط النور أبداً». والمقصود به «أرخبيل غولاغ» الذي هُرّب إلى باريس وصدر بالفرنسية، ولم تشفع جائزة «نوبل» له بالحصانة، إذ سُحبت منه الجنسية السوفياتية. وستلعب الطفلة أليس نيوتن، وهي ابنة ناشر «بلومزبري»، دوراً استثنائياً بنشر مخطوط «هاري بوتر والحجر الفلسفي»، إذ اعتادت أن تقرأ ما يحضره والدها إلى المنزل من مخطوطات قصص الأطفال، فأعجبت بهذا المخطوط غير المكتمل، وطلبت من والدها إحضار فصول أخرى منه. لن نكمل الحكاية، فقد أصبحت ج.ك.رولينغ من أشهر كتّاب الأطفال اليوم.