تتحدث بالـ«قاف»، بـ«قاف» مفخمة. تواظب على ذلك رغم تركها بتاتر منذ أكثر من أربعين عاماً، ورغم أن أولادها جميعاً وكل من يحيط بها تمرّسوا مع الوقت بلهجة بيضاء. تطرق يومياً بابنا الملاصق لباب منزلها وتدعو والدتي إلى شرب فنجان قهوة على شرفتها. تفضل دائماً شرفتها. كانت الأوسع بين شرفات المبنى.والدي أيضاً يتحدث بالـ«قاف». ولكن استخدامه هذا الحرف كان موسمياً ومشروطاً بالمكان أو الأفراد، كسائر الدروز الذين تركوا قراهم منذ سنوات ولجؤوا إلى بيروت، فتحولت لهجتهم إلى لهجة «مدينية» سرعان ما تتبدل بتبدل الأمكنة أو الأشخاص. والدي مثلاً لم يكن يتذكر لفظ «القاف» إلا في رملة البيضا عندما يلتقي بإخوته أو عند الصعود إلى الضيعة، بخلاف أم عماد التي حافظت على «قافها» أينما ذهبت وأيا يكن من يحدثها. كانت تستمد من هذا الحرف قوة ما تضيفها إلى سجل جبروتها. امرأة يهابها الجميع. لم يكن مسموحاً لنا دخول منزلها. لم يكن حتى مسموحاً لأحفادها دخول منزلها إلا بشروط: الهدوء، عدم اللعب، عدم الصراخ، عدم إحضار الأصدقاء، عدم فتح البراد، الامتناع عن الطعام في الصالون وغرفة الجلوس وغرف النوم. لمس التلفزيون ممنوع، والأمر نفسه في ما يتعلق بالراديو. ممنوع المسّ بالـ«زريعات» وخاصة الغاردينيا... قطف وردة من ورداتها قد يرتب تقريعاً شديداً. وأحفادها كثر ومن أعمار مختلفة. معظمهم عاش فترة يسيرة من حياته هنا، في هذا البيت. حين توفيت كنت أرتدي فستاني الأصفر.
عدت من سهرتي الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ركنتُ سيارتي في المرآب الذي يبعد شارعاً من منزلي، ومشيت بصندلي الذهبي، وطلاء الأظافر. استخدمت المصعد. تركت وجهي الأحمر بسبب مفعول النبيذ في المرآة، وخرجت لأجد باب أم عماد مفتوحاً. لم أعلم ماذا أقول لوالدتي. لن أتصل بها لأبلغها أن أم عماد توفيت. التقيتها نهار الجمعة هي تحكم إقفال بابها بقفلين مزدوجين. ترتدي «تاييرها» الزيتي المزخرف ببعض الورود. طلبت مني أن أقطع خيط الفستان المتدلّي من أسفل كتفها ثم وقفت أمامي تلك الوقفة التي تسألني فيها إن كان الفستان لائقاً بزهوره من دون أن تطرح السؤال.
اليوم هو فجر الأحد.

جميل ملاعب ـ «عاليه» (غواش ـــ 2002)

الرجال يجلسون على الشرفة ويعدّون متطلبات المأتم والعزاء. على تلك الشرفة كانت تمشي، ذهاباً وإياباً، حتى طلوع الفجر. تهرع إلى حافة الشرفة مع هدير كل سيارة. تترك تلفازها الصغير مضاء في غرفة الجلوس. تنتظر نشرة الأخبار، تسمع قليلاً منها ثم تخرج. تمشي ثم تمشي ثم تمشي. تمرر نظراتها على «زريعاتها» التي احتلت طرفي الشرفة. لا جديد في النشرة. حان وقت المسلسل المكسيكي. إنها الإعادة الثالثة اليوم. تنظر إلى الساعة، لم يغلبها النعاس بعد. النساء يجلسن في صالونها الواسع. لم يتسنّ لحفيداتها ارتداء الأسود بعد. رغم ذلك، كان الجو القاتم يجتاح المكان باستثناء فستاني الأصفر الفاقع الذي بدا خارج سياق متناسق من الألوان.
اليوم، تبدو صورة «توفيق» بكل درجاتها الرمادية والبيضاء والسوداء أكثر نفوراً في منتصف الحائط. سترتسم صورتها بقربه... وستكون صورة بالألوان.
كلما ذكرته، كانت تذكره باسمه؛ توفيق، بقافها المفخمة. أما هي، فلم يعرفها أحد إلا بكنية «إم عماد». ربما لأن توفيق توفي قبل أن يبلغ من العمر ما يثقل أذانه بالكنى. وربما لأنها أحبت أن تسميه باسمه. توفيق، حاف، بقاف مفخمة. في الحر الشديد، كانت تجلس على العتبة. تضع كرسياً يسند بابها وتطرق بابنا. «راوية دخيلك، خلي بابك مفتوح ليلعب الهوا شوي». وتجلس، بتفريعتها الصيفية، والمروحة اليابانية. حارسة الطابق السادس. تحيي الطالع والنازل وتقيم صبحياتها وعصرونياتها في المسافة الضيقة بين الباب وزاوية الدرج. متران يتسعان لبناتها وحفيداتها وجاراتها وفناجين القهوة ولأراجيل بناتها. أحياناً كانت تجلس وحدها لساعات. على كنبتها الخاصة، حتى تمل من الليل ويمل الأخير منها. تمشي. تهذي بصمت بين زرّيعاتها: لن تتمتم، ولن تخرج أي كلمات... إلا تلك التي تقبل بها براعم الغاردينيا. لا يجب أن يخرج هذا الهذيان الذي في رأسها والذي لن يعرف به أحد. فكرت في أحيان كثيرة أن تحدث الغاردينيا عن هذيانها هذا، لكنها خافت عليها من الذبول... تشغل نفسها بهدير سيارة من هنا أو بمواء قطة من هناك. تسقي «الزريعات» قبل أن تشق الشمس حافة شرفتها. أشعة الشمس ترسم خطوطاً على باب المطبخ، والنوم لم يأت بعد. ملّها الريموت كونترول.
لم تنفع الحبة الزهرية.
مرة دخلت علينا بكيس أدوية وطلبت من والدتي البحث عن الحبة الزهرية. لم يسعفها بصرها. «مش قاشعة يا راوية». كانت تغضب بسرعة فائقة ثم تهدأ. هكذا كانت كل أيام أم عماد... لحظات كثيرة من الغضب تليها لحظات كثيرة أخرى من الهدوء. لا أذكر شكل عماد... ولا أذكر إن كنت التقيته يوماً ما. ولا تنطبع في مخيلتي أي أحاديث عن حادثة الخطف، أو عن السنة أو الظروف التي أدت إلى خطفه، ولا أعرف كيف تصرفت أم عماد حينها. لا يوجد في ذاكرتي أي تفصيل مرتبط برد فعلها... لا تسعفني أي صور من الذاكرة في ذلك رغم أن باب منزلها كان ملاصقاً لمنزلنا. لا أذكر أيضاً ماذا فعلت حين خطفت ابنتها نوال. كان الحديث عنهما بين وقت وآخر مرتبطاً بدعائها على شلة زعماء البلد. لم تكن لتتشارك صورهما في كل مكان ولم تكن تبكيهما أمام أحد. لم تتحدث يوماً عن ابنتها سهام التي فقدتها في حادث سير في أوائل السبعينيات.
كانت تمضي أيامها بين باب المدخل والبلكون. في يوم من الأيام، طرقت باب المنزل. كانت تعاني من «لفحة هواء ضربت كتفها». بالكاد كانت تستطيع الكلام. كانت يائسة وتحتاج إلى مساعدة قصوى. تلك هي المرة الأولى التي بدت فيها ضعيفة. طلبت مني حينها أن أنقذ يمامة عالقة على خشبة صغيرة وضع عليها سائل لاصق... إنه فخ الفئران الذي وضعته في البلكون. هكذا قالت لي... يمامة عالقة على شرفتها في فخ فئران. لم تستطع الانحناء بسبب كتفها. انحنيت بدلاً منها... وضعت الخشبة على حافة الشرفة وأطلقت اليمامة... أخذت تلك الأخيرة وقتها قبل أن تطير. نظرت إليّ، نظرت إليها، ثم طارت، وبقيت أم عماد تجوب شرفتها ذهاباً وإياباً.

(*) قصة مجتزَأة من مجموعة صدرت حديثاً بعنوان «شياطين الدومينو» (دار النهضة العربية ـ بيروت) للبنانية منى مرعي