«إنّ العالم العربي الذي يستحق أن نحارب ونتصادم في سجالاتنا من أجله هو عالم حيث يستطيع العقل العربي بسط قدراته كما يبسط عصفور جناحيه ليبلغ الأعالي. ولن يولد المجتمع العربي، كمجتمع معرفة يتكيّف مع المجرّات ودقائق التكنولوجيا الحديثة ما لم يتح للمرأة، أن تتعلّم، وأن تشارك في صنع القرار، وأن تنسج أفكارها حول شبكات البثّ الإلكتروني، مثلما كانت الجدّات تحوك، بتلقائية مدهشة، آلاف الأزهار الهندسية فوق السجاجيد». من بوابة «المجلس العربي للعلوم الاجتماعية»، يصدح مجدداً صوت عالمة الاجتماع المغربية الراحلة فاطمة المرنيسي (1940ــــ 2015) عبر كتاب يجمع سلسلة محاضرات نظّمها المجلس تكريماً لصاحبة «هل أنتم محصّنون ضد الحريم؟» و«شهرزاد ترحل إلى الغرب». يضمّ الكتاب بين دفّتيه المحاضَرات الكبرى الثلاث التي ألقيت في إطار السلسلة: المحاضرة الأولى التي ألقتها أسماء بنعدادة في بيروت (2019) بعنوان «أعمال فاطمة المرنيسي بين المقاربة التاريخيّة والبحث الميدانيّ»، بمشاركة إدريس كسيكس الذي قدّم شهادةً بعنوان «رسالة إلى الفقيدة»، وديمة قائدبيه التي قدّمت قراءةً في كتاب المرنيسي «ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة اجتماعيّة». أما المحاضرة الثانية، فقد استضافت أميمة أبوبكر (2020) وحملت عنوان «المعرفة الدينيّة في العالم العربيّ من منظور نسويّ: من النقد إلى إعادة البناء». أمّا المحاضرة الثالثة فألقتها زينة زعتري (2021) بعنوان: «تحوُّلات الحركات النسويّة والكويريّة في المنطقة العربيّة: السرديّة والتغيير المجتمعيّ».

رسم ايرين كويستا

ينطوي الكتاب على بيبليوغرافيا شبه شاملة تضمّ أبرز مؤلَّفات المرنيسي بلغتها الأصليّة وتلك المترجمة إلى اللّغة العربيّة، فضلاً عن مداخلاتٍ وتعقيباتٍ وشهاداتٍ وصورٍ خاصّة للمرنيسي في حياتها اليوميّة وأعمالها الميدانيّة. سلسلة المحاضرات التي ألقيت في إطار المؤتمر السادس لـ «المجلس العربي للعلوم الاجتماعيّة» (بيروت 2023) محاولة جدية للإحاطة بفكر المشاكسة التي لم تسعَ في مؤلّفاتها إلى تقديم عائلة عربية ومسلمة مثالية للقارئ خالية من التناقضات وتسودها الطمأنينة والسعادة كما أوهمتنا بذلك خرافات الطفولة وأحلام المراهقة، بل سعت جاهدةً إلى زعزعة طريقة فهمنا للخلية الاجتماعية الأولى وتشكيك القارئ في معتقداته الخاصة وأنماطه حول دينامية الجنسين وأدوارهما، وحثّه على التفكير في أشكال جديدة للعلاقات الجندرية. حاربت بكل قوة النموذج الاستشراقي لشهرزاد الذي يصوّر المرأة الشرقية خاملة في الحرملك كما في لوحات دولاكروا ونظريات المستشرقين: «كنت متأكدة بأنّها إنسانة تستثير الإعجاب، ذات ذكاء مذهل. لو كانت شهرزاد تنظر إلى نفسها على أنها بليدة، لكان الملك قطع رأسها. إنها تحترم قدرة الكائن على تغيير قدره، السحر كامن فينا، تلك هي رسالة شهرزاد. إننا نأتي إلى العالم مجهَّزين لكي ندافع عن أنفسنا. عقلنا سلاح لا يقهر. إن احترام الذات هو سرّ النجاح، ولذلك أبهرت هذه المرأة الشرقيّين رجالاً ونساءً في الأمس واليوم». لم تغب المرنيسي يوماً عن نضالات الإنسان العربي في وجه السلطة بكل وجوهها، خصوصاً تلك التي تستمد قوتها من ضعف الشعب أو من إقصاء النساء والحجر عليهنّ، وتكريمها في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ الإنسان العربي في بحثه عن الكرامة، جزءٌ من المسيرة الطويلة في بناء «العربيّ العالمي» على حدّ تعبيرها، الذي لا ترتبط قيمته بجنسه ولا بمركزه بل بإنسانيته المجيدة.