«أنا خادمتك. أنا الخادمة التي تُنظّف غرفتك في الفندق... أفرغ من عملي فأترك غرفتك في أحسن حال. سريرك مُرتّب ترتيباً مثالياً، عليه أربع وسائد منتفخة، كأن أحداً لم يستلق هنا قط. مرآتك الملمّعة تعكس إليك صورة البراءة في وجهك. كأن قذارتك كلّها، أكاذيبك وخياناتك كلها... كأنها مُحِيت. أنا خادمتك. أعرف عنك الكثير. لكن، فكِّر في هذا: ماذا تعرف عنّي؟». حققت رواية «الخادمة» (2022) للكاتبة الكندية نيتا بروز نجاحاً عالميّاً وتمَّت ترجمتها إلى لغات عدة لتنتقل أخيراً إلى العربية عن «منشورات الرمل» (ترجمة الحارث النبهان). على أن تتحول قريباً إلى فيلم سينمائي من إنتاج «شركة يونيفرسال». تحكي الرواية قصة «مولي» الخادمة التي تعمل في «ريجنسي غراند أوتيل» وهي مخلصة ومتفانية في عملها إلى حدّ الهوس. تعاني مولي من التوحُّد، ما يجعلها غير قادرة على فهم السلوكيات الاجتماعيّة السليمة واستيعاب ردّة فعل الأشخاص الذين تلتقي بهم في حياتها اليوميّة، وغالباً ما تُفسِّر تصرفاتهم وأقوالهم على غير محملها الحقيقيّ، ولا تدرك أنّهم يُحاولون استغلالها لتنفيذ مآربهم. في مُعظم الأحيان، يسخر زملاؤها من عملها المثالي ويُشبهونها بآلة التنظيف «رومبا»، أو يُطلقون عليها لقب «مجنونة الأنظمة». لكنّ مولي تتجاهل كلامهم المؤذي لأنّها تعشق عملها، فلا يوجد شيء تحبُّه، على ما يبدو، أكثر من تنظيف الغرف القذرة وإعادتها إلى حالة الكمال، وكلّ يوم عمل هو فرحة عارمة بالنسبة إليها، فهي وُلِدت لتكون خادمة وفق تعبيرها. بالنسبة إلى مولي، لا شيء في العالم يُضاهي متعة تجهيز عربة الخادمة بحُزَم صغيرة مُبهجة من الصابون المُغلّف بعناية برائحة زهرة البرتقال، وزجاجات صغيرة من شامبو «كرابتري آند إيفلين» ومناشف ناصعة البياض. وعلى امتداد صفحات الرواية، تصف لنا مولي بشغف استثنائي كيف تقوم بالتنظيف ونفض الغبار وتلميع المرايا وتطهير الحمّام ونفش وبر السّجادة. أمر يجعلنا نشعر كقراء بالرّغبة في شراء أدوات ومساحيق التنظيف والبدء في تعقيم كل شيء.

في أحد الأيام، تُصبح مولي المنسيّة محور الأحداث عندما تجد، أثناء تنظيفها اليّومي للغُرف، جثة «مستر بلاك» أحد رجال الأعمال الأثرياء، فتصير هي المُتّهمة الرئيسيّة في قضيّة قتل من الدّرجة الأولى. تقبض عليها الشّرطة للتّحقيق معها. تتعلم مولي أن تواجه الحياة بمفردها. تجد نفسها غارقة في بحرٍ من التحديّات بدون أي شخص يُرشدها، وخصوصاً بعد رحيل جدّتها الطيبة التي كانت ترعاها. يُمكن القول بأنّ الرّواية تنقسم إلى نصفين. الجزء الأول يعتمد على حقيقة أن مولي عموماً غير مُدركة تماماً لما يحدث حولها، فتقوم بتصرفات غبيّة أو تتلفظ بعبارات مُضحكة. الجزء الثاني مثير بطريقة مختلفة، حيث تقوم البطلة بحلّ المشكلات التي تورطت فيها، وتحاول إثبات براءتها من التهمة الخطيرة المُوجّهة إليها.
الرواية مُشوِّقة ومُناسبة لعشاق الألغاز والبحث عن المُذنب الحقيقيّ، إذ تنتهي بشكل غير متوقع. تُركّز الكاتبة على تفاصيل ومشاعر الشخصيّة الرئيسيّة مولي التي تحكي القصّة من منظورها الخاص، ويبدو استخدام ضمير المتكلم مُوفقاً للغاية لِما فيه من حميميّة وصدق وبساطة وقدرة على تعرية النفس وعرض ما يدور في ذهن البطلة من خواطر وأفكار بعضها يدفعنا إلى القهقهة عالياً. وبالتالي، نشعر ببهجة حقيقيّة عندما نشاهد مولي وهي تحاول فهم ما يحدث حولها، وعندما تُحاول استيعاب ماذا يعني شخص ما من خلال الإيماءات وحركات الرأس والابتسامات المُختلفة. ورغم أن مولي غير واعية إلى حد ما، إلا أنها شخصية ساحرة ولطيفة، وهذا ما يجعل الرواية مُدهشة ومغرية للقراء الذين سيتعاطفون لا مُحالة مع هذه الفتاة البريئة المتروكة وسط عالمٍ قاس.
تُظهر الرواية أيضاً الازدراء الذي يتعامل به الأغنياء وأصحاب النفوذ مع المُهمّشين، كما لو أنّ أموالهم تُعطيهم الحق في سحق الآخرين كالحشرات، مع الإشارة إلى أنّ معظم هذه الثروات ليست من مصادر شرعية. وهذه حال مستر بلاك الذي يعبس عندما يلتقي بمولي، ويطلب منها أن تغرب عن وجهه، ويتبيّن في ما بعد أنّه جمع أمواله عبر الإتجار بالمخدّرات. تُبيّن الرواية أيضاً مدى سهولة استغلال الفتيات البريئات أمثال مولي، من قِبَل رجال عديمي الأخلاق. صديقها الأول «ويلبور» سرق الأموال التي أودعتها الجدّة في البنك لتأمين مستقبل حفيدتها من خلال خداعها لمعرفة الرقم السّري لبطاقتها المصرفية. أما الصديق الثاني «رودني» الذي يعلم أنّ مولي معجبة به، فلم يتورّع عن استغلال وضعها كفتاة مصابة بالتوحد، لتوريطها في جريمة قتل بهدف إبعاد الشبهات عن تجارته بالممنوعات.
ولكن الحياة ليست سوداء كالحة بالمطلق، فلا يزال هناك بعض الأشخاص الطيبين والأصدقاء الحقيقيين الذين سيقفون للدفاع عن مولي، ومساعدتها للخروج من أزمتها واستعادة سمعتها ووظيفتها. وهنا يأتي دور السّيد برستون بوّاب الفندق وصديق الجدّة الراحلة، وابنته المُحاميّة اللذين سيساندان الفتاة المسكينة بكل قوّة.
ستتحوّل الرواية قريباً إلى فيلم سينمائي


تتميّز الرواية بالحوار الآسر بين الشخصيات الذي يأخذ أحياناً اتجاهات كوميدية، ويكشف عن عدم فهم مولي للناس وحيرتها أمام بعض تصرفات وتعليقات زملائها ونزلاء الفندق حيث تعمل. كما يكشف المونولوغ الداخلي عن رؤية مولي المحدودة للعالم التي تجعلها تظن أن الحياة مُكوّنة من لونين فقط، الأبيض والأسود. فمولي لا تُدرك أن هناك ألواناً أخرى خُلقت لنجد للسعادة أبواباً ونوافذ ودروباً عديدة.
الرّواية ممتعة بسيطة غير مُتكلّفة، وتحمل عمقاً عاطفياً كبيراً، وخصوصاً في ما يتعلق بعلاقة مولي بجدّتها ومعاناتها أثناء احتضارها وبعد موتها. بالتأكيد، لن يستطيع القارئ تركها من دون إكمالها، لأنّها ستجذبه بأسلوبها السّردي الجذّاب. لقد نجحت الكاتبة في بناء عالم الفندق بكلّ تفاصيله الصّغيرة بشكل مُبهر. كما برعت في رسم شخصية مولي المُختلفة والمهووسة بالتنظيف. حتى الشخصيات الثانوية كانت مثيرة للاهتمام من «مستر بلاك» الثري الغاضب إلى مدير الفندق «مستر سنو» الحازم والحكيم. وبالرغم من معرفتنا كقراء منذ البداية من هم الأصدقاء والأعداء، ومن هم الذئاب في ثياب الخراف، نذهب في هذه الرحلة الروائية الشيِّقة لأنّنا نرغب في مشاهدة مولي تكتشف ذلك بنفسها.