«في رواية تاريخيَّة نحكي أيضاً من أجل تنوير الناس وإخبارهم بما حدث، ومن أجل الإشارة إلى أن هذه الأحداث البعيدة لها أهميتها راهناً». تذهب رواية فاتن المر «حيث يبدأ الصدع» (دار فكر للأبحاث والنشر 2023) أبعد بكثير من هذه المقولة لإمبرتو إيكو في كتابه «آليات الكتابة السرديَّة». تتجاوز التاريخيَّة في الرواية إلى الأدبيَّة، وفكرة أهميَّة الأحداث التاريخيَّة في صياغة الحاضر، لتحاول أن تمسح عنها «غبار 1918» وما تلاه لتبين دورها في تشكيل القادم والزمن التالي، وتضع الكتابة نوعاً من العلاج النفسي الفردي (من خلال شخوص الرواية) والجماعي، لما للكتابة من شأن في نقاش الأمة لأفكارها وتاريخها مع نفسها من خلال الكتابة.

ونظراً إلى ما في الرواية من تشعّبات ثقافيَّة وتاريخيَّة وأدبيَّة عميقة، فإنَّ المقاربة لا بدّ من أن تتركز في ثلاثة عناصر: الأدبيَّة (تأصيل الزمان والمكان والشخوص)، الأدب والأيديولوجيا، الكتابة كخلاص فردي وجماعي.
وقبل هذا، لا بد من المرور على جملة العتبات النصيَّة التي تشكل علامات سيميائيَّة تتماهى مع متن الرواية، وأولها العنوان «حيث يبدأ الصدع». حيث المكانيَّة تتماهى مع حين الزمانيَّة للبحث عن أصل المشكلة مكاناً وزماناً، ويبدأ الفعل المضارع الذي يفيد الحاضر كما يفيد الاستمرار. قد يبدو ثمَّة تناقض بين «حيث» الدالة على مكان البداية أو زمانها وبين مضارعة الفعل «يبدأ». لكن هذا دلالي تماماً عند فاتن المر: الصدع في هذه الأمة بدأ وما زال في كل زمن يبدأ مجدداً كصدع جديد على هامش الصدع الأول الذي تبحث الكاتبة عنه وتحاول تأصيله، الصدع الذي هو نقطة البداية في مشكلات الأمة جاء آخراً في العنوان، كأن الأمة دائماً تقبع بين صدعَين. إنَّه صدع متجدّد بلا نهاية، تاريخ هذه الأمة يبدأ بصدع وينتهي بصدع..
لا يشكل الإهداء كعتبة نصيَّة أمراً عابراً. ماذا يعني أن تهدي فاتن المر روايتها إلى أدونيس؟ هل هو أدونيس إله البعث ورمز النهوض من الموت في التاريخ السوري القديم؟ أم هو أدونيس الشاعر المعاصر والمفكر الكبير (الذي قد تهديه روايتها لا لأنَّه مفكر كبير فحسب، وليس لأنَّه ما زال يقرأ التاريخ بعين فيها الكثير من الانتماء الثقافي لأنطون سعادة، بل لأجل هذا ولأن أدونيس يذهب في تأصيل صدع الأمة أيضاً في مفهومها الأوسع، الأمة العربيَّة منذ بداية التاريخ الإسلامي إلى ما هي عليه اليوم)؟ أم تهدي روايتها إلى أدونيس الصغير حفيدها الذي ترمز من خلاله إلى أنَّها تكتب روايتها للجيل القادم كي يستطيع أن يكتشف أسباب الصدع في تاريخ أمته؟
حين تقرأ الرواية، تجد نفسك أمام تداعيات حرَّة منفصلة لمجموعة من الشخوص: «ناجي» الناجي من انفجار بيروت وأزمة لبنان الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة وتداعيات حراك 17 تشرين الذي لم ينجُ من تداعيات نفسيَّة دفعته إلى زيارة طبيب نفسي عالجه بتحريض ذاكرته عبر صور وجمل وكلمات ونصحه بالكتابة، و«غيداء» الصبيَّة الثورويَّة في تشرين التي جمعتها التظاهرات والأحلام بالتغيير بناجي، فأحبَّته وأحبَّها ثمَّ فتر شعوره مع تفاقم أزمته النفسيَّة، و«جانيت» التي تشتغل في أعمال الإغاثة في انفجار المرفأ ثم في أعمال الإغاثة من تداعيات الأزمة الاقتصاديَّة والتي كانت تتابع ناجي منذ طفولته حين تعرفت إليه مع جدته حيث التقتهما حين كان طفلاً يرافق جدَّته إلى خيم اعتصام أمهات المفقودين في الحرب الأهليَّة، إذ فقد والده على أحد الحواجز. هي كانت تبحث عنه وعنها لأنها انخرطت يوماً في الحرب الأهليَّة وحرست سجن أبيه ليلة موته، و«رشاد» النسخة القديمة من ناجي الذي عاش خلال فترة الحرب العالميَّة الأولى وساقته الأقدار ليعمل مع مقرَّبين من صانعي اتفاقية «سايكس بيكو» والذي عمل جاهداً لنشر تفاصيل الاتفاقيَّة لإنقاذ بلاده، وجمعته علاقة حبّ بكريستينا والدة أحد الفاعلين في هذه الاتفاقيَّة؟ وهناك «عاصي» الطفل الخارق الذي يمتلك قوى سحريَّة متخيَّلة ساعدته في تحقيق ما يريد، وهو ليس حقيقة إلا حلم ناجي بتغيير حال أمته ورأب صدعها، والرجل الغريب الذي يتسلل إلى حياة ناجي ويعبث بها وبمكتبته وكتبها ويكتب في دفتر أزرق ذكريات ومذكرات... كأن كل الشخوص في الرواية شخص واحد، إنَّه حال الأمة التي فَقدَت هويتها وصارت هويات متناقضة، ناجي هو الأمة كلها وقد تشظت.
تجري الرواية في أرض الصدع: لبنان


أما المكان فهو الصدع. تجري الرواية في أرض الصدع: لبنان، وتحديداً بيروت، وتتشعَّب الأماكن إلى فلسطين وسوريا بما يخدم هذا الصدع.
تتوالى في الرواية أزمات عدة لكنها تتوحَّد في تعدّدها: زمان سايكس بيكو، زمان الحرب الأهليَّة، زمان حراك تشرين، زمان انفجار المرفأ، وكلها يعبّر عنها شخوصها «بأطول ليلة في السنة» كأنَّ كل هذه الأزمة زمان واحد ممتدّ ويطول ويستمر... كأنَّ هذا الزمان هو أطول ليل في تاريخ الأمة. تقول فاتن المر في الرواية: «سأنصب خيمتي عند ناصية التاريخ وأكتب حتى تمرّ بي الأجيال وتنهل من ينابيع معرفتي. لتلك الأجيال أكتب، للجرح الذي سوف تحمله دون أن تدري، لعلاقتها الملتبسة بهويتها وتاريخها، لصدع يصعب أن تلتحم ضفتاه». ورغم انتمائها الحزبي والأيديولوجي، فإنَّ ذلك لم يتحوَّل عبئاً على أدبيَّة روايتها، بل على نقيض ذلك تماماً، كانت أيديولوجيا فاتن عنصراً مساعداً لا مناوئاً في أدبيَّة روايتها.
نخرج من رواية فاتن المر أكثر إيماناً بالكتابة التي تساعدنا - حين يخضّنا هول الخراب وعمق الصدع - في أن نبقى ونشعل أقلامنا حطباً في برد الطريق وعتمته، الطريق إلى الضوء القادم في نهاية الصدع.