الجلسة الأولى«عليكِ أن تسمعيني» بصوت عالٍ مليء بكل أشكال الغضب وأطيافه، قلت لها من دون أن أتوخّى تلقّي أي ردّة فعل عكسيّة أو مشابهة للفعل الذي اقترفته. في نهاية المطاف، أنا هنا، في عيادة للأمراض النفسيّة والعقليّة أراقب نفسي وأنا أبوح أتجنّب النظر في وجه المعالجة النفسيّة، السمراء الثلاثينيّة التي تدوّن على مفكرتها الكحليّة رؤوس أقلام أو أفكاراً أو ربّما ترسم قارباً وبحراً طويلاً يأخذها بعيداً من حقول تعبيري الصوتيّة. أظنّ لها كلّ الحق لكنّي أنانيّ كما قال مدير عملي البليد والبارد والمحب لي فقط لأنّي كفء هذا ما أظنّه، يتحمّل إهمالي وكسلي بدون أن يسألني بإصرار لماذا؟ يحتجّ بغضب شديد، بدون أن يصرّ على السؤال أو أن يخنق «لماذا؟».

باتريس لانوي ــ «ديوانُ الطبيب النَّفسي» (أكريليك على قماش ـــ 2021).

المسألة ليست مسألة مدير أو وظيفة أو زملاء، المسألة أعمق بكثير من الجواب على سؤال لماذا، مسألة سنين وتراكمات لن أكون موضوعيّاً في تقييمها أو تقييم إدارتي لها، على كلّ، من الجيّد أنكِ لم تقاطعيني، لأنّي أكره بشدّة لا بل أحتقر في دواخلي من يجرؤ على مقاطعتي وقد أقترف به ذنباً كالذي اقترفته مرّة بحق زميلتي في العمل وهو الحدث الذي جرّني إلى اتخاذ قرارٍ صائب ومنطقيّ باللجوء إليكم وبالتعرف إليكِ... نعم اللجوء إليكم، وأتقصّد استخدام هذا الفعل... فعل اللجوء لأني عاجز عن إيجاد الملجأ، عادة في الحروب -ولا سيّما العنيفة منها – تتمزّق الشعوب إلى شرائح وهذي الشرائح تتمزّق بدورها إلى كتل والكتل بدورها تتناثر عشوائيّاً لتغدو أفراداً أو أشباح أفراد، فيبحث كل واحد منهم عن مخبأ يستدرجهم نحوه ويغويهم بالأمان... اليوم أتحدّث إليكِ لأنّه جزء من علاجي وأنتِ معالجتي، التي تتحمّل تقلّباتي من تأخر عن مواعيدي دقيقة أو دقيقتين، مع العلم أني دقيق في حياتي الخاصة وفي الحياة العامة بتنظيم مواعيدي وتسليم أبحاثي ومقالاتي.. لكن لا أعلم.. صدقيني الإهمال ليس عبثيّاً، فالكلام كالأفعى يتسلل بخبث إلى جحر يسمّى اللسان ليبث السم والدسم وفي كثير من الأحايين ينسحب إلى الخارج ليستكشف الفراغ أو ربّما الصمت الفريسة الأشهى لأشخاص مثلي يعانون بحسب تشخيصكم الدقيق من القلق أو بشكل علميّ أدقّ من اضطراب القلق GAD. نعم ما زلتُ أتحدث بالعموميّات وأنتِ بوجهكِ الأسمر المنهك من القصص والحكايات وبشعرك الكستنائيّ الذي أنهكته أمواج الأيام والسنون وعيناكِ الصغيرتان كعلامتيْ وقف غير مرئيتين بالنسبة إلى محيطات من التعابير والأحاسيس، تسجلين كل ما أقوله أو بعض الملاحظات أو رؤوس أقلام أو مفاتيح كي تربطي بين الأزمنة التي صنعتني كوني أعجز من صنع الأقدار. «على سيرة الأقدار» هل نحن نصنع أقدارنا؟ لا أنتظر إجابة منكِ أعرف أنكِ تلعبين دور الحكم بين هواجسي وبين الذات والأشياء الأخرى التي تدور في فلكها، لكن إبراهيم ناجي ختم رائعته الأطلال «ربّما تجمعنا أقدارنا ذات يوم بعدما عزّ اللقاء...» نعم أعرف أنّ هناك تتمّة للقصيدة بعد؟ أتظنينني غافلاً؟ أو مجرّد راعي غنم يسيّر أيامه كالدّابة والمواشي ويحفظ فُتاة الإيقاعات؟ لا تنسي أنا متخصّص بالنقد الأدبي أكاديميّاً، ولولا تضخّم الأنا لما كنت سأعيد عليكِ تعريفي بذاتي، كونكِ سجلتِ كل ما سأذكره الآن بانتشاء وفخر حين فتحتِ ملفاً باسمي لينام مع سائر الملفات في درج المأزومين قصراً. أنا جود صابر، 30 عاماً من مدينة فيها البحر والبر والجو، مشروع أستاذ جامعيّ ويقال أني ناقد وشاعر. لديّ الكثير الكثير لأقوله قد لا يهمّكِ أو يهمّ من سيقرأ ملفي من الأخصّائيين والدكاترة لكنّه يهمني ويهمّ مسام الكون الذي يتنفس من قصصي، أتمسك بالـ «لا» أكثر من الـ«نعم» وأتمسك بالغضب أكثر من الصبر، بالمناسبة أنا أكره الانتظار، وأكره عامل الوقت يا ليتني أستطيع القفز فوق عقارب الساعة أعشق الوصول إلى النهايات، لا أطمح إلى صياغتها بقدر ما أطمح إلى الوصول إليها. أعشق فرنسا وسأبرر عشقي لها في الجلسات المقبلة، وأكره أكل الفقراء وسأبرر كرماً منّي ذلك... أنا سعيد جداً لأنكِ لم تقاطعيني حتى الآن، تشيرين إلى ساعة الحائط لإعلامي أن وقت الجلسة على وشك النفاد؟! نعم، نعم سأختصر لكنّي بغضب شديد أحتجّ! ينبغي أن يكون وقت الجلسة ساعة أو ساعتين، أعرف أن هناك مرضى آخرين وقصصاً أخرى عليكِ تجرّعها قبل الذهاب إلى البيت والنوم لنسيان كل شيء من هذا النهار الروتيني الرتيب ومنها قصتي، لكن تذكري أنا لا أنام جيداً أعاني من تشنّجٍ يوميّ في أناملي وقدميّ أتصارع مع قصصي وأصارع أبطالها وأصرعهم وأنتشي عندما أتغلّب عليهم بعنف، وأعاني حين لا يكتمل المشهد أو يقاطعني أحدهم، وخاصّة حين أتذكر أنّ منتصف الليل قد حلّ وأني أدير العالم والهواجس والشخصيّات والتعابير والذين أصارعهم وأتفوّق بالضرورة عليهم من سريري، بالمناسبة أودّ أن أسألكِ لمَ تنهال المسائل الفلسفيّة والأسئلة الوجوديّة علينا ونحن نتجه إلى النوم؟ قد لا تكون حالة عامّة، وقد سمحت لنفسي بتعميمها، يقول نيتشه: الأفكار العظيمة تولد أثناء المشي. هل الأفكار تمشي في دواخلنا فتولد عظيمة أم الأفكار نفسها تدفعنا إلى رغبة عضويّة هي المشي؟ لا أريد الإجابة الآن يا حضرة المعالجة، هاهاهاهاهاهاهاهاهاها تبتسمين كونكِ تقمصتِ فجأة دور القاضي الفاصل بين نزاعاتي وصراعاتي وبين ذاتي وأشيائها الأخرى، أفهمكِ لأن انتحال دور القاضي شعور لذيذ لكنّه مؤلم كالشعر، الفخ الأزليّ. سأترككِ الآن، ولا يهمني حال المريض الذي ينتظر خروجي، لا يهمني مدى صبره ولا تهمّني قصّته ولا حتّى أفكاره واعتراضاته وصرخاته، المهم أني سأخرج نصف بخير... تعبير غريب!!! نصف بخير. تطلبين مني في الجلسة المقبلة أن نتحدث في مواضيع أعمق، فليكن، توصينني بمتابعة أخذ الدواء بانتظام، نعم أنا أفعل ذلك منذ اليوم الأول، أي قبل شهر حين شخّصتم حالتي بأنها اضطراب القلق ممزوجة بالاكتئاب، سأتحدّث كثيراً لكن لديّ مطلباً قديماً جديداً، فلتكن الجلسة على مدى ساعتين!!! وأعدكم بالتحكم في مزاجي. سنتحدث في السياسة والشعر والحب والجنس والقتل والمجتمع والعادات. وها أنا وقفت كتأكيد جسديّ صريح وحاسم بأني سأغادر، شكراً لكِ لقد فتنتني بقدرتكِ الفولاذيّة على عدم مقاطعتي كون العرب ظاهرة صوتيّة والمهم عندهم الثرثرة والثرثرة تبدأ من فعل المقاطعة لا من فعل البوح. الوقت ليس مناسباً للتنظير. سنتحدث كثيراً في الأسابيع المقبلة أرجو أن تدرسوا مطلبي. إلى اللقاء.
■ ■ ■

الجلسة الثانية
- كيف حالك اليوم؟
-الحمد لله تمام
- أخبرني ما جديدك؟
- دائماً هناك جديد، وقديم بطبيعة الأحوال لكن عن أي جديد بالضبط تريدينني إخبارك؟
- أي جديد لا يهمّ، ابدأ من حيث تشاء.
- هاهاهاها! الأمور تزداد صعوبة معكِ، المشكلة أنّي لا أستطيع النظر إليكِ كوني...
- كونك تحتاج إلى الهروب من ماضيك؟
- أبداً أبداً، إذا أردت الهروب لن أهرب إليكِ أو إلى العيادة بالأحرى، لن أختار العلاج، الهروب هو زركشة المرض، تطريز ثوب مفرح له لستره وطمسه بجماليّة أكثر وأناقة أكبر. الهروب هو كل شيء سوى الاستقرار، قد يكون على شكل طائرة تذهب إلى اللامكان أو غيمة تتهرب من غوايات الشتاء... لم تفهمي قصدي هكذا يقول وجهك! نعم، نعم، أقدّر هذه «الدربكة» التي أحدثها كلامي لكن لا يهمّ، المهم أني أتكلّم وأن هناك من يسجل ملاحظات، هاهاهاهاهاهاها جميل أن تتقمّصي دور وكيل النيابة أو مثلاً دور أستاذ محاضر أو محامي في محكمة ما يرافع في قضيّة حسّاسة وممثل النيابة يسجل ملاحظات ليواجهه حين ينتهي من مرافعته، جميل أن تتخيلي كل هذا وتعيشي هذه الأدوار وأنتِ مجرّد مريضة في عيادة بائسة، بائسة جدّاً فيها ما يكفي من العتمة وما لا يكفي من الضوء، على سيرة الضوء والعتمة، والنور والديجور لأخينا الراحل ميخائيل نعيمة، «اللمبا» المزروعة في سقف الغرفة تشبه العين المنافقة!
- العين المنافقة أو الحاسدة؟
- لا المنافقة ولا الحاسدة، هاهاهاهاهاها، تشبه عيون من أكرههم..
- لا أتصور أنّ الكره مصطلحٌ منا..
- دعيني أكمللللللل!!!!!! بئس الشعوب الشعوب العربية التي لا تستحق الحوار والديمقراطية، أنا «الحق عليّ» الذي سمحت لكِ بمحاورتي بئس كل شيء، كم مرّة قلت لكِ لا تقاطعيني... لا تقاطعييييييينييييي!!!!!!!!!! كلكم تتكلّمون على مدى ربع قرن وأنا أسمع الأصوات والأحاديث ولا أفهمها ولم أملك الحق في التعبير عن عدم فهمي لها وأنتِ الآن تقاطعينني أدري هل تريدون التكلم فقط من أجل التكلم، تكلّمي تفضلي تكلمي، ماذا تريدين هيا هيا، فأنا فقدت الطاقة على التعبير، هيا!! ماذا تنتظرين، هيا!!!!
-لا أفهم يا جود، لمَ أنت غاضب اليوم، لي كل الحق في سؤالك هذا
- لا!!!!!!!!! كأني في طاحونة وأغني موّالاً، أريد المغادرة، لن أكمل الجلسة اللعينة هذه، أريد المغاااادرة!!!!
- لن تستطيع..
- سأغادر ولن يمنعني أحد، فأنا صاحب الكلمة، وصاحب الحاجة و...
- لأنك صاحب الحاجة لن تغادر
قاطعتني مجدّداًاااااا .. سأغاااااااااااادررررر.. إلى اللقاء.. إلى اللقاء!!!!!!
[..]

(*) فصل من رواية صدرت حديثاً بالعنوان نفسه عن «دار زمكان» في بيروت.
(**): صور/ لبنان