في كتابه الأوَّل «... وكان النفاق جميلاً» (عصير الكتب)، يدخل خالد غطّاس عالم الكتابة والنشر متكئاً على شعبيَّة جارفة استطاع تحصيلها كمؤثر ومحاضر في مجال التنمية البشريَّة و«عالِم حياة» كما يحبّ أن يعرّف نفسه. وإذا كانت هذه الخلفيَّة عاملاً مساعداً في انتشار الكتاب وتسويقه - وهو ما ظهر في الحشود التي حضرت احتفال التوقيع في «معرض بيروت للكتاب» الأخير - فلعلها كانت في الوقت نفسه عائقاً أمام وصول الكتاب إلى شريحة قد تكون معنيَّة به ومدركةً لأهميَّة مضمونه أكثر من غيرها، وهم قرّاء الأدب الذين لا تستهويهم بالضرورة «التنمية البشريَّة» على اختلاف مسميَّاتها ومدارسها، ويدفعهم الوقوع في فخّ الأحكام المسبقة إلى الظنّ أنَّ ما في الكتاب امتداد لما يقدّمه الكاتب من محتوى عبر وسائط التواصل الاجتماعي، أو محاولة أخرى غير مكتملة الشروط لتمدّد المشاهير نحو ميادين جديدة طمعاً بالمزيد من الشهرة.

والحقّ أنّ من الإنصاف قراءة مقدّمة الكتاب قبل رميه بالأحكام المسبقة، وفيها يقول الكاتب مخاطباً القارئ: «إن كنتَ تتوقَّع من هذا الكتاب أن يقدّم أجوبة واضحة وصريحة أو نصائح بعدد محدَّد، تساعدك على فهم أمر ما أو الوصول إلى هدف ما أو السيطرة على شعور ما، فلا تشترِه، أعدْه إلى رفِّ المكتبة وامضِ إلى غيره. وإن كنتَ قد اشتريته قبل أن تقرأ هذه المقدمة، فعوَّض الله عليك، ضعه في رفّ مكتبتك بجانب تلك الكتب التي لم تكملها أو لم تفتحها ولا لمرَّة، قد يأتي حفيد أو ابن أخٍ أو أخت لا يتوقَّع من هذا الكتاب ما تتوقَّع أنت».
وبعيداً عما يحمله عنوان الكتاب من إنشائيَّة، فإنَّ نصوصه التي اختار الكاتب أن يطلق عليها «روايات فلسفيَّة قصيرة» هي قصص قصيرة حقيقيَّة وكاملة الأوصاف، مكتوبة بلغة أدبيَّة متينة ورصينة وبأسلوب سرديّ سلس يحتوي على كل عناصر الجذب والتشويق. وإذا كان تحميل هذه القصص بالرسائل الإنسانيَّة والأفكار الفلسفيَّة بديهيّاً ومتوقَّعاً بالنظر إلى هوية الكاتب، فإنَّ ذلك لم يأتِ مطلقاً على حساب المتعة المتأتية من الاعتناء بالقالب الفني والالتزام بشروط النوع الأدبي ومعايير الكتابة الإبداعيَّة.
يلتقط غطّاس من الواقع شذرات حكايات غير مكتملة ويضيف إليها من خياله ما يكمل به الصورة، فلا يعود القارئ قادراً على التفريق بين الواقع والمتخيَّل، وفي هذا ذروة نجاح الكاتب روائيّاً كان أم قاصّاً. وبين هذه وتلك، يمرّر الفكرة والحكمة والرأي بعيداً من أي وعظ أو تنظير أو خطابة.
ويطلّ طيف الكاتب في معظم القصص قبل أن يعود ليختفي خلف أحداث متخيَّلة محبوكة بعناية تكمل النسيج السردي، فترى في القصَّة الأولى التي تحمل عنوان «وكان النفاق جميلاً» بعضاً منه في طالب الجامعة الأميركية في بيروت الذي أجَّل القبلة الأولى ليخوض مع حبيبته في نقاش فلسفي عن النفاق وزمنه الجميل، مستنداً إلى ما لديه من سحر الكلام وقدرته المميّزة على التفاعل بكل تفاصيل صوته وأطرافه وجسده مع هذا الكلام.
وفي «قصَّة بسيناريوهين»، نراه شابّاً من هذا الزمان ينشغل عن جدّيه العجوزين بالنفاذ من خلال هاتفه الجوال إلى عالم خاصّ به وحياة تشبهه، قبل أن نكتشف نقطة الافتراق بين السيناريوهين التي تجعل كل واحد منهما مناقضاً للآخر.
وفي «حبّ ووحدتان»، يتجلى الكاتب في ياسر الذي «راح يغوص في أعماق نفسه ومشاعره ويدقّق في مشاعر الفرد والمجتمع والمنظومة التي تربطهما وبدأ يكتب ويتكلم من صلب مشاعره عما قد يخفّف ألم الناس ويسهّل عليهم معيشتهم ودنياهم ويعرض عليهم رؤيته من وجهات نظر غير التي ألفوها وسئموا منها، فانتشرت كتاباته وذاع صيته وصار يُستَدعى لإلقاء محاضرات عن الحياة يحذّر فيها من أشياء ويحفّز على أشياء أخرى».
يلتقط من الواقع شذرات حكايات غير مكتملة


وفي «رفاهيّة الشكّ»، يحضر الكاتب أيضاً من خلال قراءاته هذه المرَّة، وتحديداً قصّة «أرني الله» لتوفيق الحكيم، فتبدأ الأولى من حيث انتهت الثانية لتقدّم مقترحاً سرديّاً متصلاً ولكنّه بالغ الجدّة والابتكار. بينما يأخذ في «ليس كل جبار كاملاً» شخصيّتَين من رواية نجيب محفوظ «أولاد حارتنا» (الجبلاوي وإدريس) فيقحمهما في قصّته بين أحداث وشخصيَّات أخرى من نسج الخيال، في ما قد يراه القارئ محاولةً للاختصار وتوضيح المقصود أو مجرَّد تشابه أسماء.
أمَّا في «بين الغريب والسَّائد» فيخوض الكاتب معركة الدفاع عن الأسرة من خلال حكاية تقوم على فرضيَّة متخيَّلة وغريبة تحصل في زمن قادم، وإن كان ما في حاضرنا من مقدّمات واقعيَّة يخفّف من غرابة المتخيّل فيها.
ولعل أبرز ما يسجّل للكاتب أنه استطاع الفصل بين مجاله الأساسي الذي يقوم بشكل رئيس على تقديم النصح انطلاقاً من خبرات حياتيَّة وأكاديميَّة وتأملات فكريَّة، وبين مقتضيات الكتابة الأدبيَّة وشروطها، فاكتفى في قصصه بمناقشة معضلات اجتماعيَّة وفرديَّة تواجه الإنسان المعاصر، وفتح أبواب التفكّر والتأمل أمام القارئ، من دون أن يتورَّط في محاولة تقديم حلول لهذه المعضلات بما يتجاوز دور الأدب ويخلخل بنيان السرد.