أن تكون في التسعين وتُتوج بجائزة تحمل اسم كارلوس فوينتوس للأدب، أحد أرفع الجوائز الأدبية في اللغة الإسبانية، هذا ما يحصل نادراً. لكن الكاتبة المكسيكية إيلينا بونياتوسكا (1933) فعلتها أخيراً بفارق عشر سنوات على تتويجها بـ «جائزة سرفانتس للأدب». تمتاز روايات وقصص هذه الكاتبة المخضرمة بقدرتها على التحليق بالوثيقة إلى أعلى درجات السرد التخييلي بوصفها شاهدةً على وقائع تاريخية خلخلت استقرار البلاد، وكاد أن يطويها النسيان، مثل مذبحة الطلاب عام 1968، وزلزال مدينة مكسيكو سيتي عام 1985، والنزاع المسلّح للسكان الأصليين، من خلال استثمار عملها في الصحافة الاستقصائية، ونبش ما هو مهمل عمداً، ووضعه تحت ضوء كشّاف بوصفه فضيحةً لا ينبغي السكوت عنها. أمر جعلها بين أكثر الكتّاب المكسيكيين شعبيةً لاعتنائها بأحوال المهمّشين والمقموعين والمنبوذين، على رغم انتسابها لطبقة أرستقراطية تاريخياً. تعدّد هوياتها (ولادتها في باريس، وهجرتها إلى المكسيك، ودراستها في أميركا)، منح سردها هجنةً أدبيةً تنطوي على معرفة عميقة بمعنى الهجرة والاندماج وتنوع الإثنيات، متطلعة إلى الغد على الدوام. إذ لطالما سعت في رواياتها مثل «زهرة ليس» (زهرة النور) إلى محو طيف جدّاتها في مرايا البيت، بتحطيمها، في دلالة على طي صفحة الأمس بأحزانها وأوجاعها وإشكالياتها.

هذا التأريخ لسيرتها كمهاجرة، لن يتكرّر في أعمالها الأخرى بالعاطفة نفسها، لإيمانها بأن حياة الآخرين المعجونة بالشقاء والبؤس أكثر أهميةً من تطلعاتها الروحانية. على المقلب الآخر، يصعب إحصاء عناوين كتب إلينا بونياتوسكا لفرط غزارتها وتنوّع مناخاتها، لكننا لن نجد في مكتبة لغة الضاد كتاباً واحداً من مؤلفاتها، عدا ترجمة قصص قصيرة متفرقة لها، بالإضافة إلى بحث أكاديمي عن روايتي «حتى رؤية المسيح» (1969)، و«ليلة ميدان تلاتيلولكو» (1971)، فيما ستبقى أعمال مثل «حتى لا أراك»، و«جرح باولينا»، و«قوّة الصّمت»، و«القطار يمرّ أوّلاً» خارج قوائم الترجمة إلى العربية. لكن مهلاً، هناك التفاتة جانبية لسيرة مواطنتها الرسّامة فريدا كالو، وقصة حبها لدييغو ريفيرا ومكابداتها المضنية جسداً وروحاً «هذه المرأة المثقلة بأزهار القرنفل، والخواتم الذهبية فارقت الحياة في 14 تموز (يوليو) 1954 وعادت إلى الثرى وتلاشت معها ألوانها، وذبلت أزهارها، وامّحى احمرار أظفارها، وخبا بريق عينيها، وحاجبها الوحيد الممتدّ على جبهتها كجناح غراب، شاربها الخفيف، شعرها، دموعها الحرّى السّاخنة، عظامها المكسورة، عكّازها، سجائرها، قيثارتها، ريشتها، مرآتها، الملصقة في سقف حجرتها، هذه المرأة التي ترون قد لا تكون فريدا الحقيقية، بل ربما كانت فريدا المعكوسة في المرآة». ثم ننصت إلى اعترافات فريدا نفسها كراوية لسيرتها في تناوب سردي لافت «أنظر إلى عينيّ لقد أضناهما السّهاد، إنني أكاد لا أنام، بل إنّني لم أعد أتذوّق طعمَ الكرى أبداً، إنّي أقضي الليالي وأنا في حالة قلق مستديم، أستقبل إشارات لا يشعر بها الآخرون، أنظر إلى أناملي المثقلة بالخواتم، أقبّل هذه الأنامل لأنّها وحدها لم تخدعني، تنفّذ ما يأمرها به عقلي ووجداني في حين خانني جسمي كله، إنني حبيسة هذا الجسم اللعين منذ سنوات، هذه الأنامل هي التي ضفرت شعري الطويل الفاحم، وزرعتْ فيه الزّهور».