العلاقة بين البشر والكلاب ممتدّة منذ أن تمكّن الإنسان قديماً من استئناسها، فأصبحت الصديق الأقرب له من بين كل الكائنات، وأكثر الحيوانات المدجَّنة وفاءً لصاحبها، إلا أن بطل رواية «كلب المعمل» (دار المحروسة ـــ 2023) للجرّاح والروائي والشاعر المصري إبراهيم البجلاتي كانت له حكاية خاصة مع الكلاب. يدخلنا البجلاتي إلى عالمه لنرى كيف تحولت علاقته بالكلاب من الخوف منها إلى الحزن عليها، حتى نصل مع نهاية الرواية إلى سبب هذا التحول الكبير، واكتشاف البطل وحدة المصير، وتشابه عوالم الكلاب مع عوالم البشر: «وكأنني قلت له: اصمد معي يا صديقي فلا أحد يدري مَن مِنَّا في داخل القفص».

يأخذنا البطل/ الراوي، وهو طبيب شاب، معه في رحلة إلى قلب المنظومة الصحية المصرية، لنتعرف معه إلى طريقة إدارتها. ينجح في رسم تناقضات هذا العالم وأبطاله، ونكتشف معه الخلل الجوهري في منظومة الطب والبحث العلمي. يحدث كل هذا في إطار محاولات الطبيب ابتكار عملية جراحية جديدة لصنع مثانة بديلة، لعلاج الأشخاص الذي يعانون من تورم سرطاني في هذه المنطقة من جسد الإنسان. لكنه يتوجب عليه ــ بحكم القواعد العلمية ـــ أن يُجرّب الطريقة الجديدة على الكلاب أولاً، للتأكد من النتائج وقابلية التنفيذ في البشر. ورغم أن هذا هو الخط العام للرواية، إلا أنه بعد التورط في القراءة تكتشف أنها مجرد هامش، والأصل هو رصد هذه الحالة الإنسانية المتناقضة في مشاعر الطبيب، وما يعانيه من حالة قلق عام، وأزمته مع الأبوية والسلطويّة. يعاني البطل من مشاعر هجينة ما بين الخوف والإقدام، الحزن والفرح، النجاح والفشل، الطموح والانهزام، يتعرف أكثر على نفسه من خلال التعرف أكثر على الكلاب، فالمصير مشترك.
علاقة البطل/ الراوي بالكلاب تبدأ بأن عضّه أحدها وهو طفل، فيولد داخله خوف كبير منها. تتطور العلاقة بعد أن يقترب من الكلاب أكثر داخل معمل التجارب الطبية، في إطار سعيه للحصول على درجة الماجستير في تخصص المسالك البولية. في المعمل، يجد نفسه فجأة في مواجهة الكلاب، يتابع طريقة جلبها إلى المعمل، وحبسها في أقفاص حديدية قبل أن تخدر وتوضع على سرير التجارب، ثم وفاتها. ينظر الطبيب إلى عيون الكلاب ويكتشف فيها حزناً كبيراً، فيفكر في الكتابة عن الحزن في عيون الكلاب: «... واكتشفت الحزن التشريحي لعيون الكلاب. يوماً ما سأكتب شيئاً عن هذا. واكتشفت أن هيئته الوحشية تخفي تركيباً هشاً وكائناً تابعاً لا يعاني من عقدة أوديب. واكتشفت أن بإمكاني أن أحلم لكنني لست مسؤولاً عن هذه الأحلام». هذا الاكتشاف يجعله يبدأ رحلة للبحث عن علاقة الإنسان بالكلاب، وكتابة تاريخ مختصر لها، مستعيناً بما كتب سابقاً: «إيه هو الكلب ده بالظبط، أصله إيه؟ وتاريخه إيه؟ أعتقد إن ده هو أصل المشكلة… ‫ – وده ها يفرق معاك في إيه؟ هتبطَّل تخاف منه واللَّا هتكتب كتاب عنه؟ ‫ – المعرفة في حد ذاتها قيمة، ومتعة، ووسيلة للتجاوُز».
وفي إطار سعيه إلى معرفة تاريخ العلاقة بين الكلاب والبشر، يستعين البطل بأمهات الكتب، فيلجأ إلى «كتاب حياة الحيوان الكبرى» للدميري، لكنه سريعاً ما يتركه بعدما تاه في المقدمة والتصنيف، منتقداً الخلط بين العلمي والشعبي. يذهب إلى «كتاب الحيوان» للجاحظ، ويسترسل البطل/ الراوي في ذكر مسيرة الكلاب وبداية علاقتها. ولأن الأسئلة كثيرة في ذهن الراوي، يلجأ إلى كتاب كونراد لورنتس، عن عالم الحيوان، (وهو الكتاب الذي ترجمه البجلاتي نفسه عن الفرنسية ونشره «مركز المحروسة» بعنوان «والتقى الإنسان بالكلب»)، ويؤرخ للكلب كأول حيوان مستأنس، ورحلته من الجرّ والحمل والنقل والمشاركة في الصيد، وصولاً إلى الصداقة مع الإنسان: «لم تكن طاعة الكلب سوى تعبير بريء عن عجزه ومحبته، لكنها كانت محبة بلا خطة، أوقفت دماغه عن العمل، فصار دماغه أصغر، وصار تابعاً ألصق، وصار خاضعاً أكثر، ثم عبداً جوَّعوه، وهو الذي يسحب لهم الطرائد، فإذا جاعوا هم وعزّ الصيد ذبحوه وأكلوه وصنعوا من فرائه مئزراً ونعالاً». تدور الأحداث جلها في نهايات ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، في أعقاب تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار القوى الشرقية العظمى، وما نتج عنه من خلل في ميزان القوى العالمي، وانعكاس ذلك على المجتمعات العربية، بسطوة الأفكار الرأسمالية، وثقافة الاستهلاك، وتحول البشر أنفسهم إلى مجرد آلة في ماكينة الرأسمالية العالمية، وصعود الأصولية الدينية في عهد أنور السادات، راصداً التحول الذي حدث على البشر والأمكنة: «ما زالت شوارع توريل تحتفظ ببعض من جمالها القديم، لكن وصلتها أكوام الزبالة مثل بقية الشوارع، وتكاثرت فيها الحفر والخرائب المعروضة للبيع. كانت هناك فيلات وحدائق تعشق المشي بقربها. كان هنا بشر مختلفون كأنهم جالية من عرق مختلف، وكأنهم كلهم رحلوا، وكأن بنا رغبة في طمس وجودهم ومحو ما تبقى من أثر لهم».
تدور الأحداث في أعقاب تفكك الاتحاد السوفياتي


بطل الرواية هنا هو السارد يتحدث بضمير المتكلم، ينقلنا في تجربة تبدو خاصة جداً، لكنها في الحقيقة تجربة الكثير ممن تعاملوا كأطباء أو مرضى مع المنظومة الصحية المصرية، كاشفاً عن واقع مؤلم يختبئ خلف البالطو الأبيض. إلا أن شخصية «الباشا» مدير المركز الطبي الجامعي المتخصص في أمراض الكلى، تبدو طاغية على الراوي، إذ يملك هذا الرجل القدرة على فعل كل شيء بحياة من حوله. مدير صارم يتحكم بالأطبّاء والعمال والمرضى، يشبه شخصية «أبو شنب» العامل المسؤول عن توفير الكلاب في المركز، فهو أيضاً يتحكم بالكلاب يربطها ويجرها ويحبسها ويضربها ويطعمها، وهو من يشهد لحظات وفاتها أو من ينفذ فيها القتل الرحيم.
نسافر مع الراوي من المنصورة في دلتا مصر إلى جنوب البلاد في الصعيد ثم القاهرة قبل أن يستعد للسفر إلى فرنسا. بطل يعاني الكثير من القلق والتوتر والبحث عن الذات، والخوف أيضاً، هذا الخوف الذي يجمعه مع الكلاب. يموت الكلب الأخير الذي يجري عليه الطبيب تجاربه العلمية، فتفشل تجربته لكنه يكتشف أن «الفشل ليس سيئاً تماماً بل يمكن أن يكون حلاً من الحلول (..) لأن موت الكلب واحد لا ينهي على بقية الكلاب:
نجحت تجاربنا، والكلب يا أستاذنا العزيز مات، لكن سيظل في الدنيا كلاب، حتى القيامة والحساب».
ينظر الطبيب إلى عيون الكلب فيفزع من الحزن الذي وجده في عينيه: «خرجت من المعمل عائداً إلى المستشفى العام. لماذا تمتلئ عيناه بكل هذا الحزن؟ وهل تحزن الكلاب أصلاً؟ وإذا كانت عيناه حزينتين بالفعل، فما سر هذا الحزن؟ هل تشعر الكلاب بالظلم؟ أم أنني أتوهم؟ هل حزنه هذا هو السبب في صمته العميق الدائم؟ كان بإمكاني أن ألمح حزناً في عيون الكلاب كلها. الشرس منها والهادئ والقبيح. كلاب المعمل كلها لها عيون حزينة. كنت كمن وقع على كشف ما، كشف غامض، لا بد من فك غموضه».