في مفاجأة سارّة غير متوقّعة، نشرت «دار سوي» الفرنسية أخيراً إصداراً جديداً بعنوان «الخطاب الفلسفي» للفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (1926-1984)، وهو عمل غير منشور كان فوكو قد انتهى من كتابته عام 1966 حين دخل في عزلة طوعية في منزل العائلة في مقاطعة البواتو غرب فرنسا، بعد نشر كتابه الأول «الكلمات والأشياء»، وبعد أن طلب إعفاءً من «جامعة كليرمون-فيران» حيث كان يدرّس علم النفس، لكي يتولى منصباً في كرسي الفلسفة في جامعة تونس. انشغل فوكو ذلك الصيف بسؤال معرفي أساسي: ما هو الخطاب الاستثنائي الذي يمكن للفلسفة أن تبوح به ولا يمكن لأي نوع آخر من الخطاب - الأدبي والعلمي والديني والسياسي والفني ... - أن يبزّها فيه؟ ظلّت الإجابة على هذا السؤال طيّ الكتمان لأكثر من 57 عاماً، إذ كانت المفاجأة كبيرة عند اكتشاف مخطوطة «الخطاب الفلسفي» في مئة وعشرة صناديق الخاصة بفوكو التي تحوي 38,000 ورقة من أرشيفه، وُضعت في عام 2013 في المكتبة الوطنية الفرنسية من قِبل دانيال ديفير، صديق فوكو وأحد ورثته، والمسؤول عن نشر أعمال الفيلسوف بعد وفاته عام 1984.

اكتشف القيّمون على المكتبة الوطنية المخطوط في شباط (فبراير)، بعد وفاة ريفير الذي كان يعتبر دائماً أن الصندوق الشهير الذي خرج منه هذا النص الاستثنائي يحتوي على دروس أُلقيت في جامعة تونس بين عامَي 1966 و1968، وأنّ فوكو لم ينهمك بتأليف أي كتاب قبل عمله المرجعي الضخم «المراقبة والمعاقبة» (غاليمار، 1975). كان تحديد مفهوم الفلسفة ودورها يكتسب أهمية خاصة بالنسبة إلى فوكو، الذي يشرع بداية في تشريح المشروع الفلسفي الديكارتي، إلا أنه ينتقل إلى وضع بصمته الخاصة في هذا العمل كما يوضحها الفيلسوف المعاصر كريستيان روبي: «بالنسبة إلى فوكو، لا يتعيّن على الفلسفة أن تكون أساساً نهائياً للمعرفة. فقد فقدت الحقيقة بعداً أصلياً»، فماذا يعني أن تكون فلسفة إذا لم تعد الفلسفة أساساً للمعرفة؟ يتساءل فوكو، بخاصّة أن وضعية هذا التخصص كانت حينها في صلب النقاشات في الساحة الفكرية الفرنسية، وكانت الأفكار البنيوية الجديدة حاضرة بقوة لتشويش الفلسفة في علاقتها بالعلم والحقيقة. إن قوة هذا النص تنبع أساساً من مهمة «التشخيص» التي يحددها فوكو للفلسفة كما مهمة إعطاء القدرة على الضوء التي أعطاها إيلوار للشعر. يكتب فوكو: «منذ فترة لا يمكن تحديدها – ربما منذ نيتشه أو منذ وقتٍ أقرب - حصلت الفلسفة على مهمة لم تكن مألوفة لها من قبل: مهمة التشخيص. قول ما يظهر في ما نراه يومياً. إنارة ما يُظهَر فجأةً في تلك الساعة الرمادية التي نعيشها. يجب على الفيلسوف أن يجعل من الفلسفة نبية اللحظة، أن يقول ببساطة «ما هو موجود»، كما يكرر فوكو. إنه «إنسان اليوم واللحظة»، ومهمته تتمثل في الإشارة «إلى ما يجعل زماننا مختلفاً ومختلفاً تماماً عن كل ما ليس هو عليه، أي الماضي». الفيلسوف إذاً في أطروحة فوكو هو الشخص القادر على فهم القوى المتغلغلة في العابر والنافل واليومي في حياتنا، وتنقية الخطاب اليومي من كل ما يعلق به من زيف وسذاجة وجهل من أجل «فتح كوة للتفكير والعيش بشكلٍ مختلف» وتعميق فهم العلاقة بالذات فضلاً عن العلاقة بالمؤسسة.