في بداية مجموعته القصصية «شيء ما أصابه الخلل» (دار المرايا ــ القاهرة)، يُطلق محمد فرج فعل القصّ، مثل كلبٍ هائج، ينبش في عُمق الجحيم الإنساني في حياتنا المعاصرة. ثمّة أمرٌ بائس أن يربط الإنسان نفسه باحتمال لن يحدث. من هنا، يبدأ الكاتب المصري بتشكيل ملامح الخلل الناتج من الانفصال عن الواقع، وشحن المستقبل بأملٍ مأمول، يجعلنا نتعامى عن اللحظة الراهنة، بمعنى أن تُعاش الحياة بحثاً عن الحياة وفق ما يقول فرج.
في القصة الأولى «ضباب»، يخافُ البطل حرفيّاً من كل شيء.. وباعتبار أنّ الخلل قد يظهر في أي لحظة، ليُنهي حياة أحدهم، فإنّ بطل القصة يركّز على الحذر، من أن يسقط المصعد وهو بداخله، من أن تمُرّ قطعة طعام في ممرّ التنفّس، من سقوط السقف الإسمنتي على رأسه. أما في قصة «نضج»، فيرى الراوي تدريجاً أوجه زملائه المُنهكين من الاجتماعات الطويلة، على أنّها وجه ماعز. يتطور الأمر تدريجاً من لحظة شكٍ بسبب الإرهاق الطويل، إلى حالة عامة. إذ تتحوّل الشخصية، عندما تنظر في المرآة، إلى وجه ماعزٍ مُماثل لتخيّلاته المفزعة. ثمّة حضور للإحالة في القصص، بدءاً من موقف، حكاية مُكثّفة لحظة ظاهرها عادي. هذه الإحالة تعزّز الاشتباك، على مستوى عالمي، مع وحش الاغتراب الذي يُخيّم على المشهد المُعاصر. يُمكن للقصص أن تُورّط معها أي شخص، في أي ظرف كان، لأنّ عامل الزمان والمكان فيها، مُجهّل إلا من حُضور شبحي يُغزّي ضرورة الدخول في إطار الحكي.


من جهة أخرى، لا يُمكن لهذا التداعي أن يكون فردياً تماماً. في قصة «تشابُه»، حين يعتاد الراوي النظر إلى القمر، ويجد جاره في شقة مُجاورة، ينظر أيضاً إلى القمر، يلتبس عليه الأمر أولاً، حتى يُصبح الراوي صديقاً لمجاوره خلال لحظة عواء أو صلاة مُشتركة.
في مسرحية «العاصفة» لشكسبير، يُطلق بروسبيرو نبوءته الخالدة حول الحداثة الغربية، فيقول: «هؤلاء الممثلون ليسوا سوى أرواح وقد تفرّقوا في مهب الريح». كأننا نغوص في نوم عميق، مثل الحالمين، يُسيطر علينا خيال، حيث تصوّراتنا تشكّل حياتنا.
استحالت جُملة شكسبير في المسرحية إلى جدلٍ فلسفي وثقافي مُعاصر، فالنسيان، والخوف منه، كشكلين منوطين بالذاكرة وحاسمين للهوية التي تتشقق وتتصدّع، يشكّلان قضيّة مركزية في الفلسفة. يُشير فريدريك جيمسون إلى علاقة الذاكرة بالوضع المُعاصر، مؤكداً على أنّ النظام الاجتماعي المعاصر بأكمله، بدأ شيئاً فشيئاً، يفقد قدرته على الاحتفاظ بماضيه.
ينحسر الماضي حالياً أمام حمية تتبّع اللحظة الراهنة، من سيولة الأخبار والتكتّلات السياسية وتداعي العالم، بينما على هامش هذه الأخبار، في جانبٍ شبه منسي، يعيشُ أحد رواة محمد فرج في عالمٍ مطموس، يلتبسُ عليه لعبُ الكلاب في الخارج، إذ إنّها تُشبه استدعاءات الذاكرة، التي تلعبُ حولنا، ببراءة، ثم تنهش فجأة عقل الرّاوي وتُجهز عليه. الذاكرة، في حال استدعائها، تتشكّل على هيئة جحيم دانتي لا تطهّر منه.
في قِصة «مُجاراة»، تتجلّى أشكال سلب ما يُمكن للذاكرة أن تحتفظ به. تطمس المؤسسة كُل شيء، تُغرّبنا عن المكان، الروتين اليومي، ومعالم الفضاء الخارجي، إذ يخرُج الراوي لقضاء مصلحة حكومية، يدخل مكاناً مجهّلاً بالنسبة إليه، حتى ينتهي أمام الشُرطة مُتّهماً بالتسلل والعبث بإحدى مُمتلكات الدولة. يتجلّى الخطر مُتمثلاً في الخارج، نسبةً إلى أول تشكّلات ثُنائية الداخل والخارج في الوعي البشري. في كتاب «جماليات المكان»، يُفرّق باشلار بين الداخل والخارج، باعتبارهما مُفارقة للأمان والخطر، فالداخل هو البيت الآمن، بينما الخارج هو حيث نودّع زوّارنا قبل الرحيل، مُفعمين بخوف تاريخي، ونتمنى لهم السلامة حتى يأمنوا بالداخل مرة أخرى.
تتخذ القصص منحى كابوسياً وقسوة استثنائية


من التداعي إلى حالة الاستثناء، يعملُ راوي قصة «عمل» في رمي الرؤوس والأذرع البشرية في أماكن عشوائية ومُختلفة. يأتي ذلك في سياق العُنف الناتج من الفقر المُدقع في الدولة. لذلك أصدرت المؤسسة قانوناً بتغريم من يقتل من الفُقراء أو الأغنياء. صاحبُ مهنة إلقاء الرؤوس، لا يدخل في هذه الثنائية، لأنه يُمارس عملاً يُمثّل نشاطاً واقعياً في تحقيق «التلاشي». لكن هل يُمكن أن يتوقف نشاط التلاشي عند فناء أجساد القتلى؟ في حالة الاستثناء هذه، يُفقد كل شيء، حتى ذاكرة الراوي، لكن هل يهم ذلك؟ على العكس، فثمّة سعادة في هذا العالم، أن يموت أحدهم، ومعه ذاكرة يوم واحد. يتمثّل الجانب المُحاصر للذاكرة، التي تُعتبر مصابةً كليةً بالخلل، في قصة «دوران». يبدأ الراوي بمعرفة ما فعله آخر خمسِ دقائق، ثم آخر عشرين عاماً، ويفاجأ أنه على مستوى فعلي، لم يفعل شيئاً مُنذ عشرين سنة. تتحوّل تكوينات الماضي إلى حصار يخلقُ المُستقبل، وإن لم تذكر تفصيلاً هذه التكوينات، لأن الأساسي هُنا هو ما تُصدّره من خطر، من خللٍ يجعل التتابع المشهدي أشبه بكارثة طويلة الزمن. كارثة لا يُعرف مداها، لكن تعرف جيداً رائحة الخطر التي تفوح منها. هل نتذكّر المستقبل المأمول، الذي يمثّل الحياة المُنتظرة في مطلع القصص المذكورة في مطلع المقال؟ كل ذلك يسقط في حفرة، مُلقى بها جسدٌ ينزّ من وجهه قيح الدمامل والحبوب، لا خلاص من هذه الحُفرة، فكل شيء يدفع الراوي إلى الالتفات حولها، حتى نقشة الوردة على وسادة النوم. من يستطيع انتشال الراوي؟ لا يهم، المُهم هو أنه لا يستطيع انتشال نفسه.
تتخذ قصص محمد فرج منحى كابوسياً. هذه القسوة الاستثنائية تأتي من مشاعر عادية، ملقاة على أرصفة الشوارع من كثرة نهشها في أرواح الناس. ربما لذلك، وبشيء من اللين، يُنهي فرج قصصه بقصة «أغنية ريثما يمتلئ البيت بالغاز»، فطالما أنّ مآلات النهاية مُوجّهة نحو الوقوع في الهاوية، لا مانع من صورٍ للأشجار الخضراء، للذكريات السعيدة، وتوهمات النوم والراحة. هل هي راحة الراوي الميت في القصة الأولى؟ أم راحة القارئ الذي تورّط بحكم الشراكة العاطفية مع هذه القصص؟