تشكّلت الهوية الثقافية لليبيا عبر تراكمات وروافد تاريخية جعلتها خلطة متناغمة من الثقافات الأمازيغية، الأفريقية، العربية والإسلامية. وفي العصر الحديث، كان ظهور الإعلام فيها أول نواة للحركة الثقافية إبّان الحكم العثماني (1865-1911)، إذ انتشرت الصحافة المحلية، ولعبت دوراً رئيساً في نشر الوعي السياسي وبلورة هوية ثقافية متنوعة وجامعة في الآن نفسه. أما فترة الاحتلال الإيطالي (1911-1943)، الذي كان من أكثر الاحتلالات توحّشاً، بلغ حدّ الإبادة في مناطق نفوذ حركة عمر المختار، فقد عرفت ركوداً ثقافياً وفكرياً، إذ أجمع الدارسون على أنّ إيطاليا لم تكن مهتمة بنشر الثقافة العربية الأصلية في ليبيا ولا بتثقيف الليبيين. وبجعل ليبيا تحت حكم الإدارة العسكرية البريطانية والفرنسية عام 1943، سمحت سلطات الإدارة بحرية الرأي والتعبير بجرعات قليلة جداً، فانتشرت النوادي الثقافية والاتحادات المهنية والنوادي الرياضية. ومع انتقال الحكم إلى نظام الملكي السنوسي (1951-1969)، وقع انفراج نسبي في الحريات العامة، ما سمح بانتشار جمعيات فكرية وأدبية، ومراكز ونوادٍ ثقافية، بعضها بدعم حكومي. لكن معمر القذافي، الذي حكم البلاد لاثنين وأربعين عاماً (1969-2011)، أعاد تشكيل الثقافة الليبية، من منظوره الخاص المستحوذ على كل مفاصل الدولة، مستأثراً بكامل المشهد الثقافي الليبي، عبر مزيج تلفيقي وزائف من الإسلام (والإسلاموية، أحياناً) والاشتراكية والنظريات العالمثالثيّة وأفكار حركات التحرر الزنجية، وبإغداق الأموال على مجلات وملتقيات أفروآسيوية، كرّس بعضها لتلميع صورته قائداً وروائياً ومُنَظِّراً سياسياً من طرف جوقة لم تتغير فيها الأسماء كثيراً! ربما كان الفضل الوحيد لحقبة القذافي، ثقافياً، متمثلاً في تمويل فيلم «عمر المختار: أسد الصحراء» (1981)، بطولة أنطوني كوين وأوليفر ريد، وإخراج مصطفى العقاد. بعد تخلّص الغرب بحلفه الأطلسي من القذافي، دخلت ليبيا في جو من التشرذم والاقتتال الداخلي وعدم الاستقرار السياسي حتى اللحظة، ما لم يساعد أبداً لا في إحياء الحركة الثقافية الليبية ولا في إعادة بناء أسس هوية ثقافية متجدّدة متنوّعة وجامعة لكل الليبيين. ملفّنا اليوم تحيّة شعرية وجدانية إلى ليبيا، وخصوصاً مدن بنغازي والبيضاء والمرج وسوسة، ودرنة التي كانت المتضرر الأكبر من إعصار «دانيال» المتوسطي الذي ضرب ليبيا في 10 أيلول (سبتمبر) الحالي، مخلّفاً آلاف القتلى والمفقودين
1. محيي الدين محجوب: سأغمرك بالحب، أيها الإعصار، لعلّك تهذب سلوكك
ما لا يعرفه السيل
أني سأولد
من رماد.
■ ■ ■
يجب أن تشعر بالخجل
أيها الماء
نحن أبناؤك.
■ ■ ■
إلى رجال الإنقاذ
في درنة
نفسيتي تحت الأنقاض.
■ ■ ■
بعثرتنا العاصفة
لنعرف أن حياتي
هي حياتك.
■ ■ ■
إلى روح الشاعر مصطفى الطرابلسي
نحن لم نلتق
لكني أعرف
كيف كنت تستعد للشعر
كي ينزف قلبك
في القصيدة.
■ ■ ■
مهلاً أيها الطوفان
أمهلني أواسي أمي
في موتي.
■ ■ ■
كل قصائدي حزينة
ما دام لا معنى
للنشيد الوطني.
■ ■ ■
لهذه الكارثة
كان يخطط الوادي
منذ أن سرقت الأفعى
عشبة الحياة من جلجامش.
■ ■ ■
من المرجح
بعد الإعصار
خرجت روحي.
■ ■ ■
ما زلت المتّهم الأول
أيها الإعصار
حياتي كلها أعاصير.

سأثأر منك
بقلم الرصاص
ولكل دمعة
أفضح فعلتك المشينة.

أيها الإعصار
سأغمرك بالحب
لعلك تهذب سلوكك.
■ ■ ■
ذكريات طافية
الموت بصلابة قلب
وكطفل أبكي أثناء الولادة.
■ ■ ■
لماذا انشغل عني جلجامش
بعطشه الشخصي.
■ ■ ■
أوجعني كثيراً هذا الوادي
لا أريد أن أسلم على
المطر.
■ ■ ■
يا أمي
المطر الذي يبلّلنا الآن
يحاول إقناعي
لا علاقة له بإعصار دانيال.
■ ■ ■
هذا طوفان
تسلّل خفية
عن سفينة نوح.
■ ■ ■
رأيت في العاصفة
ريحاً عمياء تدحرج الغياب
وأشجاراً تستغيث.
■ ■ ■
بعد العاصفة
لم نجد عيوننا لترى
كانت مشغولة بالبكاء.
■ ■ ■
أيتها الرياح
كيف يمكن أن أصف
شمعة انطفأت
وأحثّ عود الثقاب
على الكلام.



2. جمعة عبد العليم: مدينة غافية في حنية وَادٍ
في ليلة الكارثة
وفي الليالي التي تلت
لم تتركني الكوابيس..
جثث طافية
على هيئة فراشات..
تمتمة قراء
تأتي من مساجد
محمولة على عرش الماء...
هدير قادم
من أقصى الغفلة
ونداءات مفزوعة
تراوح بين الخوف والرجاء...
أسراب حمام
ترميني
بأغصان من وجل...
أطفال يتكلمون
تحت الماء
لم أفرز من كلماتهم
سوى كلمة أمي...
في ليلة الكارثة
وفي الليالي التي تلت
كلما نمت
تدفق الطمي
إلى جوفي..
أيقظني صراخ
متداخل ومبحوح
وأَفْلَتت يدي
من جذع النخلة
الذي كان يحملني...
الليلة فقط
طبطب ولد وسيم،
بعينين خضراوين،
على قلبي
وقرأ لي كلاماً
مطرزاً بالصور والمجازات ..
ولد يحسن
التهدج بالقصائد
ويرسم الحركات
في المكان المناسب
من أواخر اللهفة..
ولد وسيم
بعينين خضراوين
وابتسامة مطمئنة
كان يسألني
عن مدينة أضاعها
وهو يعبر الجسر الأخير...
مدينة غافية
في حنية وَادٍ
عن مواسم
الرمان والعنب
وأطواق الياسمين
المعلقة في رقاب
أطفال المفارق..
عن سرّ الكلمة
حين تُقال
في وجه الليل
وصاحبها سارب
في فلق الفجر..
عن سر النجمة
وهي تكسر وحشة الليل..
وتسامر الغرباء
على تخوم وحدتهم..
ولد وسيم
بعينين خضراوين
دسّ منجلاً في يدي
وأشار إلى الحقول البعيدة..
■ ■ ■
تبارك الماء
الذي يزف
الأنفس البريئة..
ينقلها من ثقل الطين
إلى خفة الروح..
تباركت قلوب
الأمهات الثكالى
وهي تدوس
على الجراح الغائرة
وترش عطر الصبر
على المهج المسافرة..
تبارك الظلام
والمطر الذي ساق
طمي السنين
صوب زرقة الموج ..
تبارك السيل
الذي غافل
المدينة النائمة
وسرق قبور الأولياء..
غنى على
رجع مزمارها
تعطر بأرواح الشعراء
ونهب الحكمة
من فيض أشعارهم ..
تبارك هذا الأسى العظيم
الذي شقّ قلوبنا
وأسكن في مطارح الشك
منارة من يقين..
تبارك الحزن
الذي لفنا جميعاً
بردائه الدافئ..
تبارك الموت
الذي أيقظنا
تبارك الألم الذي
الذي ألف بيننا..
تباركت درنة
وهي تطفئ
نار الفتنة
في ظلمة ليلها..

3. سميرة البوزيدي: نجونا على الطرف الآخر من البلاد، لكننا غرقنا في الحزن الجاف
صباح الخير
نظن أننا نجونا نحن الذين على الطرف الآخر من البلاد
لكننا غرقنا في الحزن الجاف
جُرفنا طوال الليل إلى البحر ولم نصل
تقلّبنا في الوحل ولم نمت
من يقول إنّنا نجونا
العواصف ما زالت تزأر في أرواحنا
والسدود تتحطم وتعود
والأطفال يعودون إلى الحياة ويغرقون كل ليلة في خوفنا
لا أحد سينجو
ومن ماتوا تركونا خلفهم نبحث في الركام
عن خلاص ما.
■ ■ ■
كلنا ننتظر
خلف الباب
وفوق الجبل،
وتحت الماء الجثة تنتظر من يمسك بيدها!
التراب ينزلق إلى البحر
والماء يحمل الحياة إلى الموت
الماء وقد أصبح فجأة قاتلاً
من يقنع الطفل أن يلمس الماء مرة أخرى!
تركنا بيتنا في المهب
تركنا أحلاماً وقصائد لم يقرأها أحد
أنا وأخوتي وأبي وأمي
أسرة كاملة أضافها الماء إلى تاريخه القاسي!
كلّنا شربنا التراب والملح معكم
كلنا جزعنا
كلنا نختنق كل ليلة قبل أن يأخذنا سيل النوم!



4. سراج الدين الورفلي: بدون عنوان
الذين ماتوا
عادوا للتو
إلى مخيمات الشمس
يرشقون نوافذ اليقظة

بالنعاس الأبدي
الذين ماتوا
كانوا يضحكون
على الأسماء
ويعيدون تهجئة الحفر
لعصيّ العميان

وحدها درنة كانت تتّكئ
على غيمة قديمة
مثل عطر قارورة فارغة
تبتسم لأطفال الماء
وهم يذهبون لنسيان

5. المهدي الحمروني: درنة قرباناً
لِلعِبرة
لا العَبْرة
إنما هي دموع ليبيا
عبر تاريخها الباكي
استدعتها درنة لشلّالها الناضب
واستخارت الله
لتكون قرباناً
لطوفانها
نذراً أخيراً
لعصبتها
من الزوال
ولقد أوفت
ونحن يقتلنا الحال
لا المقتل
فهل سنفي
لها؟

6. مفتاح العلواني: درنة
عندما عانقتها للمرةِ الأولى «قرصتني» في كتفي... قلت: هذه بلاد لعُوب.. يمكن أن ينامَ المرء في كنفِها لينهض وقد استحالَ زقاقاً من الياسمين.. بلادٌ تمدّ ساقيها في عرضِ بحرٍ يبدو من بعيدٍ كخلخال.. دخلتُها وأنا أحاولُ خلقَ اسمٍ لها من بعيد لكنّني فشلت.. بينما كان صديقي بنصفِ عينٍ يحاول أن يتبيّن ملامح وجهي الممهور بوجهِ درنة الغانية.. سألني وأنا أخرجُ رأسي من نافذة السيارة: هل تحاولُ شم شيء؟ قلتُ: نعم إنها رائحة تشبه رائحة الذاكرةِ النقية!! هل شممتها من قبل؟ لم يُجِب لكنّه بدا كأنّه يشتمّ ذاكرتهُ أيضاً.
— صباح الخير والجو المطير.. هكذا قال لنا أحد كبار السن داخل المقهى وهو يمد يدهُ لتتلمّس قطراتِ مطر خجولة تبلّل بها السماء وجه المدينة.. ثم جلس قبالتي.. قال: — لستَ من درنة؟ قلتُ: — نعم.. قال: — على وجهك مسحةٌ من بلاد رويفع الأنصاري.. تبسّم صديقي مستغرباً.. لكنّني عرفتُ أن الرجل يحاولُ خلقَ شجنٍ ما.. أخبرتُه أنني مرسولٌ من رويفع لصحابتِه هنا.. تبادلنا الحديثَ بطولِ فنجان قهوتنا ثم ودعناه فودعنا بغمزةٍ شبابية لطيفة.
لم يكن لنا مكان محدّد لوجهتنا داخل المدينة.. هذه المدينة الشآمية التي سقطت عند حافة البحر.. لا تدري وأنت تسبُر أغوارها ما الذي قد يدفعك لفرد ذراعيك واحتضان كل ما يصادفك.. الناس.. الطرق.. الأرصفة.. الهواء.. أي شيء.. ثم وأنت تظن نفسك تنفست الصعداء فيحضنك العتيق بكامل أبّهته.. لعمري أن هذه البلاد تكاد يقتطفُ من وجنتيها الرمان.. حصينةٌ بجبالها المنيفة وبحرها الذي لطالما تسلّق الكورنيش محاولاً لمس جبينها الشاهق.
ما يفعل الماء على وجهك يا درنة سوى أنه يحاول أن يكون شفافاً مثلك.. وما يفعلُ الأوغاد الجبناء سوى أن يتركوا عليه ندبةً.. يريدون مخاطكِ وسعالك.. لكنك في كل مرة تركلينهم بالشعر.. بالموسيقى.. بالموشحات.. بعجائزك الموشومات بلون الحياة.. تقذفينهم ليسحلهُم الزمن كما أنهم لم يكونوا.
درنة.. هل تُطارد إلا الجميلات؟ عقِب كل خناق تسكبين عصارةً من الورد.. فيفتح دهماء الناس أفواههم في كل مرة: ما بال هذه الأرض لا تموت؟! لكن شلالاً يقبع فوق سرّتك يأبى إلا أن يروي ظمأك.. فلا نرى من أهل دارك إلا من يلوّح بإكليل السلام.. عليك السلام يا قرينة الحب.. عليك السلام والشوق الذي لا ينصرم ما دمنا ودمتِ يا سبيل الصحابة.
■ ■ ■
وحدهم الذين ماتوا على
تخومك وفوق صدرك..
ينظرون إليك من الأعلى ويلوّحون
لك بالقبل..
بينما يصرخُ الذين أخلفوا
مواعيدك الآن بملء
حناجرهم:
— مرحباً يا غالية
كطلبٍ للعفو..
وشلالك يعفو منذ زمن
ويغسلهم في كل
مرة.
■ ■ ■
‏أعرفُ امرأةً
جرفَ السيل كل أهلِها..
إلى الآن.. وهي تمشي في أزقةِ
البلادِ وتنادي:
— من يُوقف جريانَ
الماءِ في قلبي؟
■ ■ ■
كلما أغمضت عيني
فاض الماء في
ذاكرتي..
من يجفف كل هذا
الصراخ؟

7. عبد الوهاب قرينقو: نالت من روحِ عصفكَ الدوامة
الوادي لم يكُ غاضباً
فقط اقترح عليه دانيال
أن يأخذَ المدينةَ
في نُزهةِ خريفٍ ليليةٍ
نحو البحرِ فاستجاب..
هو فقط
كان غبياً في بلادٍ فاشلة.
■ ■ ■
أيُّها العصفورُ
يا ذاكَ العفويُ المُغرد،
غِب دهراً ثم عُد
وسترى كيف
سرق الأشباهُ أغنياتكَ وكيفَ
سرقتكَ غوايات العابرينَ
ونالت من روحِ عصفكَ الدوامة.
■ ■ ■
— بضاعتنا ردت إلينا،
قالت العرب.
لا أريدُها، قلتُ.
بالليبي:
— خذوا أم كل البضاعة،
انقعوا ماءها واشربوه،
علكم تفلحون.
■ ■ ■
سأطرد كل التصاوير
كي لا تُميت الكلماتُ جوعاً
ويجف النهرُ الحميم.

8. محمد المزوغي: يا جرحَ درنةَ..
أطلقْ دموعكَ حقاً إنهم رحلوا ■ وخلّفوا حسرةً في القلبِ تشتعلُ
أطلق دموعكَ إنّ الحزنَ مرّ بنا ■ وقد أقام فقل لي كيف أحتملُ
كم كنت تحبسُها في كل نازلةٍ ■ مخافةَ العذلِ فليعذرك من عذلوا
لم يخلق الله دمعاً كي نخبئهُ ■ وأيُّ نفعٍ لغيمٍ ليس ينهملُ
يا جرح درنةَ دع قلبي وخذ بدني ■ فإنّ قلبي لهم حلّوا أم ارتحلوا
يا جرح درنة مَنْ منّي سيوقظني ■ حتى أرى كيف أنّي فيك أغتسلُ
يا جرح درنةَ قد أوغلت في كبدي ■ يا جرحَ درنةَ هل يوماً ستندملُ

9. عمر الفيتوري: طفل وشيخ وامرأة
درنة
ما زال في سهولها
طفل وشيخ وامرأة
ومسجد عتيق
■ ■ ■
في عشاء ليلة الفيضان
لم يأكل الأطفال حتى
كانوا فرحين بمجرى الوادي
منتظرين غداً مشرقاً
لرؤيتهم عن قرب
ذلك السد
كاهل المدينة القديم
وفي غمرته هدايا
دانيال
■ ■ ■
في درنة
جاري البحث عن بائع الياسمين
في الجرف المعطر
بأرواح الشهداء

10. منصور العجالي: عروس زُفّت إلى السماء؟
يا الله
ابنة أخي حياة
كان يومُ زِفافها
لكننا لم نعد ندري
هل نجت
هل حملها الماء
إلى البحر
أعالقة
أم زُفّت إلى السماء
■ ■ ■
يسائلني الصحاب
عن الصحاب
وما علموا أن لي
بين الجوانح
خافقاً كليماً
بات يخشى السؤال
خوفا من قسوة
الجواب..