يميّز أدونيس بين نوعين من الشعراء: الأوّل يمكن وصفه بأنّ اللغة هي التي تكتبه، وهو من يكون قابلاً، يتبنّى الموروث بمفاهيمه وقيمه وطرائق تعبيره. لا يطرح حولها أيّ سؤال، ولا يثير أيّ اعتراض. والثاني هو الذي يكتب اللغة، يحاول أن يقول شيئاً لم تقله، بطرقٍ لم يألفها، فهو يتساءل دائماً ويبحث. هذا الثاني هو الذي يغيّر طرق الكتابة، ويمارسها في الوقت نفسه قراءة مغايرةً لنتاج الماضي. وهو، في ذلك، يغيّر الرؤية السائدة للعالم عبر الشِّعر». وكميل حمادة، الذي نحن أمام نتاجه الشعريّ الجديد «ما زال هذا الليل ينجب نجمةً» (منشورات تكوين) لا يربطه شيء أبداً بصفات شاعر أدونيس الأول، وهو الذي نشر سابقاً «ما لم يقله الله» و«النبي ما بعد الأخير»، نراه يقترب ليشكّل أنموذجاً حيّاً لشاعر أدونيس الثاني. كيف لا وهو الثائر والرافض والمتسائل والباحث دوماً، والخالق لغةً خاصّة يريد بها تغيير رؤية المتلقّي السائدة لهذا العالم، عبر الشعر!

يخوض حمادة تجربته الشعرية من خلال تشكيل عالمه الخاص هادماً أحياناً، ومكملاً بلبنة أو اثنتين فوق بناء يتشكّل من مجموع شعراء جيله، وعائداً في أحيان أخرى إلى الموروث ليعيد إحياءه بلغته التي يخلقها تباعاً وتجدداً مع كل نصّ. نراه في ديوانه الجديد، يبدأ بأن السيد «ك» يعود دوماً من الحبّ بخفّي حنين، و«السيد كاف» الذي إن أردنا مقاربة تسميته بالسيد كاف في رواية «القلعة» غير المكتملة لكافكا (المذكور في إحدى قصائد الديوان)، نجد تبايناً كبيراً بينهما، والحديث هنا لا يصلح لهذا الأمر.
هذا التقديم يضع المتلقّي أمام عتبات النصّ ليكون مفتتحاً واضحاً لما سيقرأ. تبدأ مع النص الأول «وحيداً سوى من يديكِ»، لتدرك أن السيد «ك» لم يخلق عبارة جاذبة فحسب ليفتتح كتابه، بل كانت الضوء الأخضر لتسير داخل قصائد «حبّ» بالمعنى التقليدي، وهنا تقرر البحث عن الجديد، وما إذا كان حمادة يقدّم فعلاً جديداً، ليثبت أنه بالفعل نموذج لشاعر أدونيس الثاني.
«رصيفُ المنارةِ ملتَحفٌ بالبرودةِ، بيروتُ ليست كما تعرفينَ، لقد أسرفَ الحزنُ فيها ذبولاً، فزادت جمالاً كما أنتِ، كم يتضاعفُ حسنُ الأنوثةِ عند احتدام التأوُّه، بيروتُ مثلكِ، يمنحُها الحزنُ حسناً غريباً، كأنّكما كلُّ هذا الجَمال الملوّعِ، أو أنتما كلُّ هذا الشحوبِ الجميل». تقرأ المقطع فتواجه هذا التقابل بين الحبيبة وبيروت، هذه المفارقة التي تأتي بالجديد، وهو ما يرتبط بالمكان والزمان، فتعود بك شعرية النص إلى واقع بيروت وبؤس ناسها، فتكون لغة الشعر روائية مرمّزة، فتقول إنها بداية مبشّرة بالجديد. قصيدة «لكِ كلّ شيء» تبدأ بتساؤل الحبيبة «لا حصةٌ ليَ في حياتكَ، أنت تنساني وتمضي، ثم تأخذُكَ القصيدةُ والصديقةُ والقضايا والمرايا والأماسي الشاعريّةُ، ثم ترجعُ حين يُنهككَ الحنينُ وحين يُتعبك المزاجُ العاطفيُّ، وحين يُثقلك المسيرْ». تنهال عليها تبريرات الشاعر بأنّ كل شيء لها بالفعل، فيقول «لكِ كلّ شيء» ويكمل بما لا نعود نستطيع إحصاءه، فيأخذنا النصّ إلى هذا الامتلاك الكليّ للحبيب، من قبل تلك الحبيبة الحائرة، فيقود الأمر إلى سؤال أكبر: هل هذا الكمّ من التبريرات، دليل كذب وهروب، لتأتينا النهاية عندما يقول «لكِ كل شيء يا صديقة...» لتؤكّد ذلك وتمحو كلّ ما قاله، فلا أحد يظنّ أنّ تلك المرأة كانت تريد وصفَ الصديقة، وهنا يعود بنا إلى مقولة «أجمل الشعر أكذبه»، لتكون رمزية الكذب بالتعبير عن الصدق، هي الجديد في هذا النصّ. تستمرّ قصائد الحبّ، مع التنويع بموضوعاتها، ليصدمك عنوان قصيدة تظنّ معها أن الشاعر يريد أن ينتقل من المرأة إلى الفِكر والحكمة وغيرها في قصيدة «عشر أصابع لله». لكنك لا تكاد تفتح للفكرة باباً حتى يغلقه السطر الأول: «وتقول لي امرأة مراهقةٌ تحبّ قصائدي في الحبّ والنسيان والمنفى...» فتعرف أنّ الديوان بجميع قصائده سيكمل على المنوال نفسه. وهنا تأتي حرفية الشاعر المحاطة بعين الناقد. قرّر حمادة الناقد أن يقدّم للمتلقّي نصاً متناسقاً لا لبس في أنّ التنويع في الموضوعات قد لا يخدمه، وهنا الجديد بعلاقة الناقد الشاعر مع نصّه. نرى الشاعر يقوم ببعض ألعاب الحداثيين الأوائل، فيهدي نصّاً لجميل وآخر لعمر بن أبي ربيعة، لكنها لم تكن لاستحضار هذا الشاعر أو ذاك لعرض فكرة أو لرمزية عميقة يواجه فيها ثقافة المتلقّي ويحثّه على البحث، بل إن الأمر بسيط وهنا الجديد فيه: أراد من هذين العاشقين المتضادين بعلاقاتهما وشعرهما أن يخدما التقابل في فكر الشاعر نفسه وعلاقاته. هو ديوان لشاعر لديه مشروع، بدأه منذ مراهقته وصباه، وها هو يكمل الدرب ليثبت اسمه من الشعراء الذين يثبتون وجودهم على ساحة الأدب العربي على الرغم من وعورة ذلك الطريق، حيث الأدب يعاني والشعر أكثر ما يعاني من بين أنواع أدبنا. إلا أنه بوجود حمادة ومن مثله، تقول إن الراية بين أيادٍ أمينة، وإن ضمان الاستمرارية لا يشوبه شكّ بوجود كميل الشاعر، السيد «ك» وأمثاله، وسننهي كما أنهى الشاعر إحدى قصائده «أحبُّكِ، يا ظِلَّ روحي الطَّويلَ، ويا جَسداً مثْل حُزن البِقاع، ويا بِنْتَ قَلبي الَّذي فَرَّ منّي وراءَكِ مثل الغزال وما عاد من يَومِها صَوب بيتي، وأعشَقُ وجهَكِ هذا المطرَّز بالشِّعر والنَّجَمَات الثَّلاث».