خرج الزير سالم من فضاء الحكاية الشعبية وسلطة حكواتي المقهى، ليحلّ ضيفاً على رولان بارت، وأمبرتو إيكو، وتزفيتيان تودوروف، وجيرار جينيت، وبول ريكور، بوضع هذه السيرة في مهبّ نظريات السرد المعاصر، و«الحكاية داخل الحكاية». وإذا بالأدب الشفاهي يخضع لبرتوكولات جديدة تحلّق بالنصّ نحو ما هو تاريخي وأسطوري في آنٍ واحد، وتالياً تقشير طبقات الحكاية دائرياً، بما يشتبك مع سرديات «ألف ليلة وليلة» لجهة الحكاية الإطارية، وما يتوالد عنها من مرويات فرعية.
(بريشة التشكيلي السوري بطرس المعرّي)

في كتابه «السيرة الشعبية في قصة الزير سالم بين الراوي والمروي عليه» (دار كنعان) يُخضع منذر حسن شباني هذه السيرة المرتحلة لمسطرة نقد ما بعد الحداثة، وتتبع سكة الحكاية من الشفاهي إلى الكتابي، ومن تخيّلات الراوي إلى توقّعات المروي عليه، نظراً إلى غياب المسوغات التاريخية للحرب بين اليمانيين والقيسيّين. لكن المبرر القصصي يبدو حاضراً بقوة دفع الخيال، ومتانة الحبكة، وتعدد الرواة، ما يحقق «المتعة النصيّة» بصرف النظر عن التناقضات في البنية السردية، فالمهم هنا هو إنتاج البطل الذي يُرضي فعل التلقي لدى المروي عليه. هكذا يتناوب الرواة على سرد الحكاية بتبديل مواقعهم من أن يكون أحدهم راوياً حيناً، ومروياً عليه وعنه طوراً، بما يفيد تأجيج حطب الحكاية. كأنّ «الناقة» التي أشعلت حرب البسوس مجرد ذريعة أولى للذّة الحكي، إذ تتفرّع الحوادث لتستقطب شخصيات إضافية تنطوي على مقدرة في التخييل، فمقتل كُليب سيمثّل «ذروة الفعل الحكائي»، فيما يمثّل الزير سالم قضية الحكاية الكبرى، وستحيلنا حكاية «الجليلة» إلى حصان طروادة، حين تخبئ الرجال في الطبقة السفلى من صناديق عرسها لحظة دخولها قصر الملك التبّع اليماني للانتقام منه، بتواطؤ مع عرّافة الرمل، ما يؤدي إلى موت الملك بسيف الزير. هنا نتعرّف في طبقة أخرى من الحكي إلى شخصية الزير سالم لا كبطل خارق فحسب، وإنما أيضاً كشخصية مأساوية تتكشف بمقتل أخيه «كُليب». إذ يرثيه بقصيدة مؤثرة تقع في باب التراجيديا العالية. يلفت الباحث السوري في هذا السياق إلى الهجنة اللغوية في أشعار هذه الملحمة الشعبية التي تتمازج فيها الفصحى والعامية، إضافة إلى عدد من الأصوات، واختفاء الراوي، وحضور المروي عليه، لحظة صعود الزير كذات مستقلة وفاعلة، إذ يرفض الصلح بقصد الثأر لمقتل أخيه، فتبتعد المسافة بين هدف الحرب وهدف الحكي، فكان على الزير أن يؤجل قتل جسّاس لإطالة عمر الحكي، محققاً بذلك «ثنائية النطق والاستمتاع» أو انسجام الراوي مع المروي عليه، بصرف النظر عن قضية الثأر، فاللذّة النصيّة أهم بمراحل من مبررات الحرب، حتى إنّ جسّاس نفسه سيدعم المروي عليه بوجهة نظر أخرى في الحرب، ضمن ما يُعرف بالتبادلات السردية أو عمل الرواة الداخليين، فيغدو «صوت المروي عليه- في نهاية المطاف- هو صوت البطل».
على المقلب الآخر، تعتني هذه الحكاية بالتفريق بين زمن القصّة وزمن السرد، كما تلتفت إلى ذكاء الراوي في إدارة أحداث القصة، وإذا بزمن الحكي يتداخل مع زمن السرد بأساليب متعددة، مثل «استباق الأحداث المستقبلية أو استرجاع ما مضى عن طريق الوعي أو الرؤيا». كأن ما يؤرق المروي عليه هو تحوّل الراوي إلى مؤرخ، ما يؤدي إلى مواجهة بين «واقعية الزمن التاريخي ولا واقعية زمن القصّ» لينتصر زمن السرد أخيراً، وفقاً لرغبات المروي عليه باعتباره البطل الحقيقي في السيرة الشعبية.