بكل سلاسة، يحكي الكاتب المصري ألبير آريه (1930-2021) قصة حياته الممتدة منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى نهاية العقد الثاني من الألفية الثالثة في كتابه «مذكرات يهودي مصري» الصادر عن «دار الشروق» في القاهرة. يضمّ الكتاب ألبوماً من صور ألبير آريه في فترات مختلفة من حياته، فيما جاء الغلاف معبّراً رغم بساطته، إذ نشرت عليه صورته كهلاً بشعر أشيب، يطل من إحدى الشرفات في منطقة وسط القاهرة حيث ولد وعاش عمره بأكمله. يطوف ألبير بقارئه في دول عدة بدءاً من مصر وفرنسا، وصولاً إلى فلسطين الحاضرة بقوة في الكتاب. زارها المؤلّف وهو صغير مع أسرته مرةً، ومع أصدقاء له مرة أخرى. اختار السفر إليها بهدف التعرف إلى ما يفعله الصهاينة تحديداً في الكيبوتسات (المستوطنات) ليتأكّد آريه من قناعاته التي يصفها بشكل مباشر في مقطع يقول فيه: «عرفت وفهمت أثناء رحلتي الفكر الصهيوني، ولو كنت غير مؤمن به، كان من المستحيل أن اقتنع بخطئه من دون رؤيته على أرض الواقع، فالحياة كانت بدائية جداً في كل شيء وتتم بشكل جماعي، ما أكد لي أن إسرائيل هي كيان مغتصب للأرض بغرض فرض نظام عسكري». هكذا كان موقف ألبير اليهودي الذي عاش في مصر هو وأبناؤه ومات فيها، رافضاً الرحيل إلى الأراضي المحتلة كما فعل كثيرون، أو حتى إلى دول أوروبية على خطى معظم أفراد عائلته، وظلّ ينظر إلى كيان الاحتلال بصفته كياناً مغتصباً حتى آخر نفس في حياته.


يحكي ألبير آريه عن مدة 11 عاماً (1953-1964) أمضاها خلف أسوار السجن بتهمة الشيوعية، كأنها فترة انغماس في كوسموبوليتانية مصر، لكن عبر الشخصيات التي التقى بها خلف الجدران، وخصوصاً المدة التي قضاها في «سجن الواحات». تذكّر كيف كان يعتني بالأشجار والحدائق في هذا المكان الصلد الحار والبعيد تماماً عن كل ما له علاقة بالحياة! لكن المساجين خلقوا هناك مجتمعاً ثقافياً كاملاً. حتى إنّ «هناك العديد من الكتب التي ترجمت والروايات التي ألفت، ومن أشهرها رواية «الشمندورة» لمحمد خليل قاسم، كما يقول ألبير آريه. في «سجن الواحات»، يحكي عن السجّان الجلاد الذي تحول من وحش كاسر إلى إنسان، لأن ابنيه شربا أدوية عن طريق الخطأ، وكادا يفارقان الحياة لولا أن أنقذهما المساجين. تحوي تلك الفترة من حياة ألبير آريه والدولة المصرية أيضاً، تفاصيل غاية في التعقيد: بينما كان عبد الناصر ذائع الصيت عربياً وعالمياً، كانت سجون بلاده تعجّ بالنزلاء الشيوعيين والإخوان، وخصوصاً بعدما حاولوا اغتياله، وهي الحقبة نفسها الغنية ثقافياً في مصر. يذكر الكتاب تصريحاً رئاسياً يبدو أن رؤساء مصر يحبّون تكراره. إذ قال جمال عبد الناصر (وفقاً لما يروي آريه) لصحافي هندي يُدعى ر.ك. كارانجيا إنّه لا يوجد معتقلون في مصر. كذلك كان لافتاً أن يبدأ كل رئيس مصري عهده تقريباً بالإفراج عن مساجين العصر الذي يسبقه، تجهيزاً لمساجين عصره هو كما فعل عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك.
ما تكشفه المذكرات عن سجن الشيوعين في مصر أنّه جاء وفقاً لقانون لم يمرّر وقتها على البرلمان وإن تم التعامل به في عهدَي جمال عبد الناصر وأنور السادات. كذلك يستعرض تكوين التنظيم الشيوعي بالتفصيل، ويسرد ما حدث في السجون المصرية من شتى ألوان التعذيب. حقبة لا يحب كثيرون التطرق إليها، كما يقول ألبير آريه في نهاية كتابه. حتى إنّ معظم مَن مرّوا بتلك التجربة، ماتوا من دون أن يحكوا لأبنائهم عنها بعكس ما قام به آريه نفسه للأبناء الذين طلبوا ذلك. ومن المفارقات أن محرّرة الكتاب منى أنيس، سُجن والدها عبد العظيم أنيس مع ألبير آريه في «سجن الواحات».
«مذكرات يهودي مصري» كتاب فارق في الحكي عن تاريخ اليهود في المحروسة، وخصوصاً قبل قيام كيان الاحتلال، فألبير آريه مصري حتى النخاع قدّم عبر الكتاب رحلةً طويلةً حول العالم أيضاً، منذ أن أصبح قادراً على السفر بنفسه سواء إلى فلسطين وبيروت كما فعل في سنّ الـ17 عاماً، ثم إلى فرنسا ودول أخرى بعد ذلك. عبر هذه المذكرات، يجد القارئ نفسه في إطلالة على مصر منذ ثلاثينيات القرن العشرين حيث ولد صاحب الكتاب أيام الملك فؤاد، حين كانت المملكة المصرية واقعة تحت الاحتلال الإنكليزي مروراً بثورة 1952 وحكم عبد الناصر والسادات ومبارك ومرسي وحتى حكم السيسي الحالي.
إسرائيل كيان مغتصب للأرض بغرض فرض نظام عسكري


قٌسم الكتاب إلى أربعة أجزاء: «الجذور والنشأة»، ثم «صرت شيوعياً»، و«أحد عشر عاماً في السجون المصرية» وأخيراً «بداية جديدة». تضمّن كل قسم، عدداً من الأجزاء المعنونة بتفاصيل من حياة ألبير آريه. سيجد قارئ المذكرات نفسه في مقارنة مع كتاب محمد أبو الغار «يهود مصر في القرن العشرين» (دار الشروق)، لكن كتاب أبو الغار وإن تناول المدة نفسها التي عاش فيها ألبير آريه معظم حياته، إلا أنه أسهب في ذكر تفاصيل عديدة وأفرد لها صفحات كثيرة من دون فائدة كبيرة للقارئ، إذ إنّها ليست مرتبطة بتاريخ المصريين اليهود في القرن العشرين. وهذا ليس انتقاصاً من الكتاب بقدر ما هو توصيف للمحتوى الذي كان من الأفضل لكتاب أبو الغار أن يمرّر إلى أحد المحررين لتنقيحه ثم حذف تلك الحواشي، التي أضرت بالكتاب. أما ألبير آريه، فقد حرص على ألا يتضمّن أي ثرثرة زائدة عن الحد. وهو ما يبيّن إلى أي مدى كان مجهود محرّرة الكتاب منى عبد العظيم أنيس فارقاً في كيفية استقبال القارئ له.
يتحدث ألبير آريه في نهاية الكتاب عن كيفية ظهوره العام بعدما أجرت الصحافة معه حوارات عدة عن «سجن الواحات» وعن كونه يهودياً أشهر إسلامه ليتزوّج من الصحافية سهير شفيق وهي التفصيلة التي لا يتوقّف الكتاب عندها مطوّلاً. يقول ألبير آريه عن نفسه بأنّ تربيته كانت علمانية ولا علاقة له بالطائفة اليهودية كدين، لكنّه اعتبر أنه عاش فترة شديدة الخصوبة والتعقيد من تاريخ مصر. وهو إن لم يختر كتابة مذكراته، فقد وجد نفسه «مصدراً للمعلومات وإن لم أختر هذا الدور بكامل إرادتي»، واعداً في ختام الكتاب أن يستمر ابناه في مصر للسعي حفاظاً على التراث اليهودي «كجزء أصيل من تاريخ مصر».