إنّه الشتاء وابنه فبراير قبل عقد من الزمن تماماً... أقسى الأشهر على الشعر: هجم الموت على محبرة جوزيف حرب (1944 ـــ 2014) وانتُزع عنوة من أنسي الحاج (1937 ــ 2014) خواتم الجمال والحب. كان جوزيف أرقّ من نسمة الليمون التي يحملها هواء البحر نحو بلدته الجنوبية «المعمرية»: لئن عرفنا صاحب «شجرة الأكاسيا» في الكثير من الأغاني بصوت السيدة فيروز مثل «أسوارة العروس» و«لبيروت» و«زعلي طوّل» وأخرى بصوت مارسيل خليفة مثل «انهض وناضل»، فإنّ الكثير من شعر جوزيف حرب النثري يحمل تلك الزخرفة الهائلة التي تستحقّ الوقوف عندها طويلاً، ولا سيما في مجموعاته الأخيرة مثل «شيخ الغيم وعكّازه الريح» و«السيدة البيضاء في شهوتها الكحلية» حين ينفلت الشعر من وثاق التفعيلة أو يهرب من الضغط الأيديولوجي الذي يقيد النص في «المحبرة»، لتبدو قصائد هذه المجموعات الأخيرة أشبه بقميص وزّال تحمله العصافير. شعر مشغولٌ بالقلب كتراب الجنوب تماماً. أما أنسي الحاج، فأول ما يستحضرنا في غيابه ذلك السؤال الأزلي المربك الذي حملته إحدى مجموعاته الشعرية: ماذا صنعت بذهب الشعر؟ وماذا فعلت بوردة الجمال الأزلية؟ هجم الموت على العشبة الهوجاء، على من قال «لن» في وجه كل الموروثات الجامدة والقوالب التقليدية ليخلق لنا تلك اللغة المتوترة الهائجة التي تكتب الشعر بالجهاز العصبي، على الثائر الذي يريد أن «يبجّ السدّ»، ويخلق لنا القصيدة العذبة التي تشبه «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع». ابن بلدة قيتولي الجنوبية، كان من مؤسسي مجلة «شعر» عام 1957 وأحد روّاد الحداثة الشعرية في بيروت حين كانت مختبراً حيّاً لهذه الحداثة بكل تجلياتها الفكرية والأدبية والشعرية، كما عُرفُ كناقد ومترجم في «شعر» و«الناقد»، إضافة إلى عمله لمدة طويلة في «النهار» ثم مواكبته لتجربة «الأخبار» من عام 2006 حتى وفاته. تحية محبّة لجوزيف الذي كتب مرة «طالع عبالي فل»، ولأنسي الذي كانت «أخاف» أولى كلماته في «لن»: نحن أيضاً نخاف حين ينفّذ الشاعر تهديده بالرحيل
أنسي الحاج

1- هُويَّة
أخافُ.
الصخر لا يضغط صندوقي وتنتشر نظّارتاي. أتبسّمُ، أركعُ، لكنْ مواعيد السرّ تلتقي والخطوات تُشعُّ، ويدخل معطف! كُلّها في العُنُق. في العُنُق آذان وسَرِقة.
أبحث عنكِ، أنتِ أين يا لذّة اللّعنة! نسلُكِ ساقطٌ، بصماتُكِ حفّارة!
يُسلّمني النوم ليس للنوم حافّة، فأرسمُ على الفراش طريقة؛ أفتحُ نافذة وأطير، أختبي تحت امرأتي،
أنفعلُ!
وأشتعل!...
تعال أصيح. تعال أصيح. إنّني أهتف: النصر للعِلم! سوف يتكسّر العقرب، وأتذكّر هذا كي أُنجبَ بلا يأس.
تُمطر فوق البحر
أُناديكَ أيُّها الشبحُ الأجرد، بصوت الحليف، والعبد، والدليل، فأنا أعرِف. أنت هو الثأر العائد، صلْباً كالرّبا، فاحشاً، أخرس، وخططي بلا مجاذيف. أُسدِل رأسي على جبيني فتحدجُني عينُك الوحيدة من أسفل؛ النهارُ يتركني اللّيلُ يحميكَ. النهارُ يدفعني «لك الّليل! « فأركض، اللّيلُ رَجُل! أهربُ أين وأنا الأفق؟
الحياة حيّة. العين دَرَج، العين قَصَب، العينُ سوق سوداء. عينيَ قِمْع تقفز منه الريحُ ولا تصيبه. هل أعوي؟ الصراخ بلا حَبْل. هناك أريكة وسأصمد.
سوف يأتي زمن الأصدقاء، لكن الانتظار انتحر. الجياد تُسرع، عَبَثاً، عَبَثاً، الخوف رقم لا نهائيّ.
السقفُ ينحلّ في قلبي والأرضُ لا مكانَ لها. أُهرولُ وأُقذَف، يكنسُني الصدى، صدى! الأرض بعيدة بلا طريق، الأرض تنزل بلا عَتَبة.
أُطلَقُ على الهواء، أغرز الهواء بأليافي.

أنسي الحاج


بلا تَعَتُّه، الحركة ليست ضدّ اللّيل، الحركة عمياء، تَرى باللّيل. قُم! المصباح خادم ويدك خادمة. (أضحكُ منّي) قم! هوذا أنا، الباب يُطرَق.
الباب: هنا الموت. وجهُهُ وجه القَدَر وظهرُه الضَّياع. يُطرَق ولا ينتفض، فهو يبقى.
يجب أنْ أبكي. كيف نسيتُ أنّ الدموع تعكّر المرايا؟ المرآة غابة لكنِ الدمعةُ فدائيّ. فلأسمع جلَبتكِ أيّتها الرفيقة!
فلأرفع لواءك حتّى تتقطّع أوتار كتفي!
تُمطر فوق البحر
لم يعد في العالم دمعة
والحزن؟
ما سعر رجل حزين! التغضّن علامة، الغضب إبحار. دُرَفُ الصّرْع تذيع الربيع، وعند الصباح تتعانق المذبحة والظّفَر وحسداً أخْلَعُ وجنتيّ.
لكنِ الخوف!
ما
الخوف؟
لا تبدأ. سأضؤل، وأصمت. جناحك. عينكَ الأُفقيّة! مولاي: لا! خُذْ قبلي الآخرين
دمٌ حديث.

2- أسلوب
حَلْمتاي ومَثَلي الطيّب. أقول هذا: لولا قوّة فرحكِ، لأسرعتُ أقتطع جوعاً أو أملاً. لَغْوكِ الأشقر ينتظرني عندما تنتابني الوداعة، فيُعيدني إلى الأصوات البعيدة. ثمّ يداكِ تركضان دائماً على ثيابكِ؛ الطبيعة زاخرة ومُباحة، لكنّني أقتاد بسهراتكِ ومن تحت سقفك أعضدُ انهياري. يا دليل الوقوع! اخترتكِ بين محرّضيّ لأُحبّكِ وأبصق. أقول هذا: لأعبُدَكِ وأدلّ عليكِ: إنّني نهرها! أيُّها المنتظرون لأنضج، أُسفّهكم بهذا النبع، فهو أميركم. على أصفى أراضيكم أشكُّ يأسي. وغداً تقولون: أعماهُ شَعْرُها الطويل! واللّيلة أفضح باطلَكم. أقول هذا: «مليئةٌ بالأجنحة»، أقول أيضاً: «مصطفقةٌ بالزيت». بلا شرف أمرُّ على وجه العالم. ظلال العقم على جوانبي، إنّ مسرّات هائلة يحلم بها باعةُ قراري ولكنّهم سيذوقون العار والحَيْرة. إنّني أمضي فقد صَرَختُ آخر صرخة. الطبيعة قدوة وراغبة، لكنْ على الجناح وطّدتُ خنجري واتّكأتُ عليه. أحكمُ بثقةٍ وموتٍ مُشرَع.

3- زجاج الذاكرة المُهشَّم
الجوقةُ جَرَفَتْني.
يتذاكرون سطراً لسطر. نظرَتُكِ الآليَّة تُبعثر الكامن والطافح،
فراغ وغابتي.
الرملة المفتوحة الصَّمّاء، الخَشَبة، الغابةُ الذائعةُ في الخشبة،
وكلُّ شيء رائج هنا.
وقلبي المقلوب.
للموج ملحُهُ
للموت لحمه
وللبراكين خيبتُها.
أنهضُ من زجاج الذاكرة المُهَشَّم، ينطلق عصفور مشلول. أنذرتُكِ العاشقُ يصمد!
المجمرة تكتظّ. المجمرة ربيع. المجمرة مكفوفة. المجمرة تُفلس في يديكِ.
يتذاكرون فحمة لفحمة.
حَجَرُكِ وجَمرُكِ.
أخَذَني النهرُ ولم تَرَوْني.

4- شتاء اليدين
حين أسمعكِ أيتها الأنغامُ، حين أقف، حين أتربَّص بكِ أيتها الرسومُ ذاتُ الأصداء،
حسدي يعلو غَرَق اللذَّة،
ويُقال لي: الوقتُ الذي سبقني طعنني في ظهري!
وكفتاةِ أعمالٍ
عيناها جدولٌ من الجَلْدِ
وكفتاة أعمالٍ عيناها أوسعُ من التاريخ الحيّ
أقذف القائلَ كما فتاة الأعمالِ تقذف خادمَ القهوةِ الصغيرِ
من رأس الدَّرَج
وينكبّ الماءُ الساخن على عينيه وبطنهِ
ويجلدها تعذيبه
لأنه حمل القهوةَ في وقتٍ كانت تريد إمّا أنا أو رأسي.
لي صديقٌ يتونَّس بقنديلٍ
(بمصباح كهربائي كالقنديل)
على مكتب منظّم بالفراغ والأسماء
ويبدو طيّباً وسطَ المدينة.
لا يقرأ الكتبَ المحرَّمة
تراقبه أيقونةٌ بيزنطيّة
كأنما هو شهرُ مريمَ
يتكرَّم عليَّ بصوت مُبَطَّن بالمعاطف، وكرافعةِ الأثقالِ
يبعدني بعيداً، ولا يطلب قرشاً
وعندما يطوف الجميعُ بشتائمي
يمرّونَ
فألفّه بالقطن وأحجزهُ
خلف أذني.
مهما كان
ورغم الأحلامِ المُغبّشةِ التي أدهمها فجأةً
فكما أنّ لي صديقةً، هي فتاةُ أعمالٍ، وانتهى الأمرُ
وكما أنّ لي صديقاً حجزتُه وراء أذنيَّ، وانتهى الأمرُ
وكما أنّي على يديَّ أحمل غيري
وانتهى الأمرُ
وكما أنّي قبل هذا قلتُ هذا وغيره وانتهى الأمرُ
يمكن أنّ ما أحلم به لن
أُحقّقَه
لأنّ يدي
من حين إلى حين في الشتاء خاصّة
تترك أحمالها وتصبح رشيقة
تصبح ولَدي
وتأخذ عُطلةً
وتعطيني من قُوّتها فتحمل
منّي
ورقةً أو دفتراً
دويُّه الماحي نظري
يختنق جهراً!

5- وُلِدتُ تحت برج الأسد
كما تصنعُ الغابةُ زهرة
كما تصنعُ المدينة عقرباً
كما تصنعُ رطوبةُ الجدار
حشيشة
بينها وبين الجدار
حين كنتُ ولداً
كنتُ أسمع كالنائم، وأرى
ولما ما زلتُ ولداً
تكدَّس العالمُ في عينيّ
الأخبار والأعياد وكتبُ الجيب
الأمزجة والمفردات
تكدّست الطُرَّة والنقشة
(كلّ طُرَّة
كل نقشة)
وصرتُ حين أشدّ لأُفلت
كُلّما شددت
كَرَجَتْ من فمي طرّة
ومن فمي نقشة
ومن فمي المزاج والمفرَدَة
الجدارُ الذي وُلدتُ عليه
بَصَقْتُ عليه
وحرَسَني.
بين ذراعيَّ يبكي
ولد
لأن زهرته الصغيرة التي خطَفَها من الغابة
عادت ونَبَتَتْ في المكان نفسه.
لأن العقرب التي
هرّبها ليحميها
مسحورة بشياطين الأسفلت.
لأنّ حشيشة الجدار الهوجاء
ليست كما حرّضها.
لمّا كنتُ ولداً
لمّا صرتُ ولداً
لمّا ما زلت ولداً
لم أكن محظوظاً كصغار الغرب
ولا كصغار الشرق
بلادي ضيّقة مثل شَعْرة
كرهتُها ووُصِفْت
وسقطتُ كالمارد عليها.
وُلدتُ تحت بُرج الأسد
وأسداً ولدتُ
تحت برج السرطان
وانتقاماً
سطوتُ على الأبراج جميعاً
وكُنتُ ممنوعاً من الدخول لمّا
دخلتُ أبعد من الجميع
غافياً على جذوريَ في غول
هو أُمُّ أربع وأربعين
وشمعدان أيضاً، وإبريقُ الزيت
وحملت الغول بأحشائي
فسدَّد خناجري إلى أحشائه
مُتلاصقَين كعُفونة ونباتها
واحداً كطُرَّة ونقشة.
المُنهالون من أظافري
المُزدادون سواداً تحت عينيَّ
سواء دفنوني أو هربتُ
غيّرتُ أبراجي أو انتحرت
صَنَعوني.

6- اذهبي، اذهبي، ولتتبارك الأرض
اذهبي في روائح اللّيمون ولا ترجعي بعد القطاف.
اتّحدي ولا تنفصلي.
تضمّخي، تَوزّعي في الشُّعاعِ، لا تنعكسي.
تصاعدي، تصاعدي، لا تُمطري.
اجعلي خدّيك نِسرينَتَين، وكوني جذعهما.
ليَصِرْ نهداك مصباحين وأنت عتمهما.
ليكن شعْرك غيمة وكوني عاصفة.
اذهبي، اذهبي، ولتتبارك الأرض.
اصعدي إلى الروح، غيبي في الماء اهبطي إلى الروح.
خلّصيني أنا الصّغير من حبّكِ.
اتركي، فما من راحة تحت عهدك غير موتك.
ما مَضت علينا توطئة وها ينتهي الوقت.
ما فتحْتُ لك قميصاً.
في بلادي حيث الحدود عصافير، لا تنتهي الحدود بين وجهي ووجهك.
في بلادي حيث الزهر يشقُّ الصخر، يسحقني الحرمان.
في بلادي حيث البلابل على الشبابيك، والسماء على شفير الأرض، بيني وبينك غربة الظلّ عن الجسد.
وجوهٌ تنحني عليّ، ولا أراكِ.
ليتك تبقين وراء اليأس قليلاً، فأُوافيكِ.
اُمكُثي قد أصل
فنذهب في روائح الليمون
وأفوزُ بك في ريعان الموت.

7- أوراقُ الخريف مريمُ العذراءُ
الكآبة التي كانت تسكنني ماتت
حلَّ محلّها، برياحه وأمطاره،
السيّد الوقت.
صرت أستغرب الشِّعر
أقول عن الأطفال أطفال
عن ركبة امرأة ركبة امرأة
وعن غُصن حَوْرَة مقطوع غُصن حَوْرة مقطوع.
ولم أكن، عهد الضباب الدامع،
أتداول أسماء المُسمّيات المتداولة
لا تكبّراً وحده
بل لأنّي كُنت شاعراً
فكُنتُ، عهدَ الكآبة، أُسمّي
مثلاً
أوراق الخريف مريمَ العذراء.
كم كُنت أُحسُّ ذلك!
وما كُنت كما قُلت
أُسمي هذه الأشياء
بل أراها
وآه كُنت غنيّاً
كُلّ ما يلمسني يسحرني
كُلّ ما ألمس أسحَر
ولم أكن أجهل
لكنْ، لم أكن أعرف
وظننت صُبْحَ يوم من الأيّام
أنّني خالد،
حتّى
فاحت الكآبة التي كانت
والتي لم أعرف كيف
ماتت كالمِسْك.

8- دُغوش الغياب
تجلسُ أمام النافذة المفتوحة، وتشرعُ في الذهاب. المدينة مدخنة طويلة، تصعّد الرغوة.
بعيداً ما، في المكان المقابل، رجلٌ يذهب إليها وهو وراء نافذته.
يجهل واحدُهما الآخَر. وسيبقيان، بإذن الله.
وكلّ يوم تقريباً.
هذا هو الحبّ كلّه.

(من الأعمال الشعرية الكاملة لأنسي الحاج ـــ «منشورات المتوسط»، 2023).
جوزيف حرب

... وَكنتُ عريساً مِنَ النَّحل، أَمتصُّ كلَّ بنفْسجةٍ حَفَّتِ الخصرَ بالرقصِ. كنتُ أَميرَ الغمام، وحاشِيَتِي في بلاطِ الشُّهورِ الرياحُ. يُفَتِّحُ فَوقَ لسانِيَ نهدُ الخزامى، أُمَوِّجُ تحتي عروسَ السهول، أُعَرِّي من الشَّجراتِ الَّتي أَشْتَهيها، أَضاجعهنَّ، وَأَلْمَعُ ثمّ أَذوبُ. تَحَدَّرْتُ من أُمّهاتِ العريشِ. أَبي كانَ مُهْرَ البرارِي سَبَا مِنْ خيَامِ لِبَدْوِ العَنَاقِيْدِ
أُمِّي، وفيها
رَقَدْتُ.
ولمَّا أَتاهَا مخاضُ النَّبيذِ،
وُلِدتُ.
أَفَاقَ نساءُ البنفسجِ من نومهنَّ.
وطَيَّبْنَ أَفخاذهُنَّ بِآسٍ. وأَكتافُهُنَّ رَميْنَ عليها مُوشَّحةً من غناء الدَّواةِ. وكُنَّ نَقَعْنَ النُّهودَ بماءِ زَبِيْبٍ، فَذَرْذَرْنَ مِسْكَاً عليها، وأَطْلَقْنَهَا فِي
فضاءِ الجسد

جوزيف حرب


حَمَائِمَ
في صيفِ يومِ أَحَد
ورحْنَ يرتِّلنَ للصخرِ، رَبِّ الفتُوَّةِ؛ والريح، سيّدِة الخِصْبِ؛ والموجِ، فارسِ مملكةِ البحر. كُنّ يُضِئنَ الأَصابِعَ، والصَّوْتُ يرْشَحُ منْهنَّ خَصراً وَنَهْدَيْنِ:
«اسْقوهُ ماء الأنوثةِ حَتَّى يَصِيْرَ إِلهَ السكارى الَّذي كَرْمُهُ اسْوَدَّ تحت بطون النّساءِ. ولا تُطْعِمُوْهُ سوى عشبِ بَرْقٍ ليَنْمو فِي صُلبهِ شَبَقُ الغيم. هاتوا له فَرساً ظهْرُهَا يشبهُ امرأَةً في الحصاد. ولا تَدَعوه يرى غيْرَ عُريٍ ورَقْصٍ. وإِنْ شاهدَ اللَّيلَ في الشَّعْرِ فَلْتَدْعُهُ شَفَةٌ للمبيتِ لديهَا».
■ ■ ■

أبدّلهنّ كبحر يبدّل موج السواحل. أحصدهنّ كأنّي حزيران. أغلقهنّ ورائي فخذين قد أصبحا باب بيت الخطيئة. أمسح عنّي كآباتهنّ كمن يستحمّ، وإنّي اكتشفتُ عفونتهنّ، وما فوق أذرعهنّ من الصدأ الشفّ، بعد العناق، وليس كزِنجارهنّ سمومٌ إذا هنّ أرسلن أدمعهنّ، لأنّ بياض ملامحهنّ نحاس. أسمّي الوفاء لهنّ المراثي. وأفتح قصر المساء لأدخلهنّ توابيت نومي. وألقي النذور على أرجل الوقت حتى يصبنَ بداء العكاكيز منذ الولادة. لا ألمس الفأس إلا وأذْكر أشجارهنّ. وإِنْ هنَّ جُعنَ سأُطْعمهنَّ المرارةَ وَالشَّكَ. أُجْلِسهنَّ على القبرِ بين المناديلِ والقبّرات، وأُخْرِجُ أهلَ القبور لهنّ ليشهدنَ كيف أراهن بعد السرير. رياحٌ طبائعهنّ. وأرقى كراماتهنّ الخيانة. يتقنَّ ذبح الهدية حتى تسيل دموع المحبّين منها. وَتَنْسُلُ أُمهاتهنّ خيوط جبين العريس لِيَرْفَأْنَ فبل الزفاف شفوف بكارتهنّ.
■ ■ ■

يُراقِبْنَ في لغتي الياسمينَ، فيقطفنهُ لتصير دواتي خراباً. فيهجرنها تاركات عليها صليبَ سوادٍ، وقد وقَفَتْ أحرفي تحته مريماتٍ، يخُنَّ وهُنَّ يُعانِقْنَ بين الضباب مسيحَ
بياضي.
يُطَلّقنَ حتى النسيم من الأَقحوانِ.
وتُغْرقهنَّ بوهْجِ اليواقيتِ واللازوردِ، ويطمَعنَ في عتمات ترابِ سواكَ!! وتنحَتُهُنَّ ليصبِحنَ مرمر صُبْحٍ، فيعجنّ فيك تجاعيد طينِ الغروبِ. ومن أَينَ يسكُبنَ في اللُّغةِ السحرَ؟! حتَّى إِذا ما شربْتَ تحَوَّلتَ إِلّا جراحَكَ تمثالَ مِلْح يذوبُ عليها، وهنّ وراءَ نوافذهنّ يشاهدن كيف دموعكَ تسقط من
مقلتيكَ
شتاءً
عليكَ.
■ ■ ■

حملتُ إليهنّ زرعي الوسيم. ومن لَبَنِي كان ما قد حملتُ مَلاباً وَمُرّاً. وكانت مياهي أطيب من خمر شارا؛ وقطني والخرز الفُوْفُ واللازورد أشفّ وأنعمَ من كوكب الصبح، وَالسُّنْدُسِ الرَّيْقِ. أخفيتُ عذرتهنّ بصفصاف نوّارة لا بأوراق تين.
وسرّتهنّ أَنَمْتُ عليها فراشة جيكور.
قال الرَّئِيُّ:
«مراعيك عقمٌ. ونبعك عاقر غيم. وفوق حقولك يُقتل زين الطحين. إذا أنت أطعمتهنّ بما هو فيك شهيّ وخصْبٌ».
أبان لعينيّ عذراء منهنّ. ما إن تعرّت، رأيتُ غزالاً وذئباً. سمعتُ أنابيبَ تجري الجنازات فيها. وكان لها جسد خشبيّ هو الباب قبل دخولي. وكانت يداها عليه انحناءة قِفلَين كلّ بخمس نحاسات جَمر.
وغاب الرئيّ ومنه بقلبي دويّ.
وخاف النساء الرئيّ. وقد كنّ حولي. فجمعنَ أنفسهنّ كإكليل غيم. وطُفنَ كأنّي خمر
وهنّ
دُوارُ.

ولمّا تلاقت أصابعهنّ بدأن يذبنَ، فلا هُنَّ ماءٌ. ورُحنَ يسِلنَ، فلا هنّ فضّة ورْد. ولمّا امّحى شكلهنّ تحوّلنَ أزرقَ أزرق، ثم ارتفعنَ خفافاً إلى أن غدونَ سماوات صيف نقيّ فرُحتُ أنا الشمس أصعّدهنّ، فكان على الأرض ليلٌ
وكان
نهارُ.
ولمَّا أذوب بهنّ أغيبُ. فيُصْبِحنَ ممَّا أَفَضْتُ كواكبَ
مِرْآتُهُنَّ البحارُ.
تزيّنُ أَجسادَهُنَّ مصابيحُ خوخ عليها اخْضرارُ الضَّبابِ
إِزارُ.
رأيتُ النساء لهنّ انتظار الشموع، فأشعلتهنّ؛ وطَبْع البحار، فما جئتهنّ شتاءً. صنعت زوارق مثل الأصابع فوق الخصور، وأبحرتُ كالخائفين من النوم في أعمق الماء مثل المراثي.
وأكتشفُ الموج فيهنّ، يُفلتنَ منّي، ويصبحنَ غيماً، فأكتشف المطر الراحلات إليه، فيدخُلنَ دار التراب، ويَخْرجْنَ وَرداً، فأقطفهنّ، وأملأ منهنّ روحي عطراً، وتختي رقصاً، ويذبلنَ عند الصباح، وأمضي.
أُضَيَّعُ كالسرّ. أنسل كالريح. كالماء اخرج من بين كل الأصابع. لَم تشرقِ الشَمسُ وامرأة وجدتني بِتَخْتٍ لها. لا دموع لديّ لأيّ وداع. وقد أعرف الشوق ولكن لتلك التي لم أنَم معها بعد. أضحك ممن أصيب بعشق. وكل انتظار المواعيد عندي كمن ضيّع الوقت وهو يفتّش عن غيمتين وفي يديه البحر. ما طَلَبَتْ جسدي امرأةٌ للسرير ولم تَلْقَهُ في سرير سواها.
■ ■ ■

خدعتُ جميع النساء لأنّي جبان. فقد كنت لصّاً، وهنّ يطننّ أنّي قاضٍ. وكنتُ اصلّي لعاري حتى يظلّ خفيّاً. وألبستُ عشبي عباءة شِيح. وأوهمتهنّ بأنّي قصير لأنّي فحل، ولم يكتشفنَ بأنّ ركوعي أوقف روحي على ركبتيّ. دنيءٌ كمرحاض سُوقٍ. قليل كحرباء بين الظَّلالِ. وليس لوجهي مرايا. ولا لِيديّ جناحٌ. وما مَرَّ يوم شممتُ خطاياي فيه ولمْ أتقيّأ. أَنَا أَكْذَبُ الخَلْقِ. جاء المسيح بممحاته لذنوب سواي، ولكن لأَجْلِيَ جاءَ بحِبْرٍ. أُخَبيءُ فِي النساء كأنّي كيْسُ مُرابٍ، وَهُنَّ دراهمُ. رَخوٌ. تَرِيْكٌ، ولا نار بدْوٍ لها أَثَرٌ فِي خيامِ دخاني.
سأُلْقِي عليّ عَمَا كلّ شيء
لِكَيْ لَا يَرَانِي.
■ ■ ■

أَلا جِئْنَ يا نسوة الأرض ممتلئات لهيباً، فإنّي ألذُّ بإطفائكنّ. وكنَّ سيوفاً لتجرحنني وَأَشمُّ دمائي، فتنهض فيّ ذئاب تمزقكنّ كأرجلِ خَيْلٍ تُمَزِّقُ إذ تعبر النهر جرياً خصور المياه. تَعَالَيْنَ في شغف وجنون وفتك، فإنّ اللواتي يجئن بطبع لطيف، وأسنان ماء، وأيد تمرّ عليّ مرور الندى.
لا يُثِرْنَ بكفّي رغبةَ تدميرهنَّ.
تعالينَ مثل اجتياح البرابرة لبلاد مكوّنة من برارٍ ووعْرٍ، تُخَبئُ فيها رجالاً خفافاً، شواربهم من خناجر سُوْدٍ، لحاهُمْ تُرُوسٌ، وقاماتهم ليس
فيها فُتَاتٌ وطِيْنٌ،
تعالَيْنَ، ما مَسَّ ظَنّ بكاراتكنّ.
يطِيْبُ انقضاضي عليكنّ، فتكي بِكُنّ، وإشعالكنّ لتصبحنَ نَاراً تذكّرني كَيْفَ كنتنّ بين ذراعَيْ تَرقصنَ أَوْ تتلوّينَ، يَصْحَبُكُنَّ صراخٌ عميقٌ، كما في العواصِفِ يَصْحَبُ رَقْصَ الصَّوَارِي تَكَسْرُهُنَّ.
أُجَنُ إذا طفلة لم تسِر في السنين إليّ متى أصبحَت ذات خصر ونهدين. لا شيء عندي ألحّ عليّ مِنَ الجَمْعِ بين النساء وتحطيمهنّ. أنا السهم هنّ الدوائر. أرفعهنّ سحاباً، أعذّبهنّ، أشرّدهنّ، وأُنْزِلَهُنَّ دموعاً عليهنّ.
يا ذكَراً، أين كنتَ، وما كُنْتَ، إِنّي أُناديكَ، أَقْبِلْ وَزِدْنِي، معرفةً بالنساء، لأَصْبحَ أَغْمَضَ سحراً، أكثر فتكاً، وأَعْمَقَ فَيْضاً ودَفْقاً.
أَلا انْضَجْنَ يا نسوةَ الأَرضِ. تَمُّوْزُ فِيّ، وإِنْيَ قدّيس عيد القطافِ، وأَجسادُكُنَّ عناقيد هذِي المعاصرِ فِي جسدي الدَّيْرِ، حَيْثُ تَرَهّبَ كلّ السَّكارى.
خليعٌ،
أَخَفُّ الذِي بي المجونُ.
وأرشح مكراً وعاراً. وبي رغبة أن أخون اللواتي يزيّنُ أرواحهنّ الوفاء، وألّا أعود إلى منْ يَلَذُّ لهنّ انتظاري. وكم أشتهي أَنْ تظلّ النساء عوانس، أو أن يمتنَ وهنّ عذارى، إذا لَمْ تُقَدِّسُ أَصابعُهُنَّ خواتم طَقْسِي، أَو لَم تُفَتِّحْ تويجاتهُنَّ بِنَيْسَانِ تَخْتِي.

من قصيدة «آدم بين هلالَيّ السهم والقوس»، «السيدة البيضاء في شهوتها الكحلية»، دار رياض الريس، 2000).