ليس سهلاً أن تكتب، بعد الأربعين، عن رواية مخصّصة للفتيان. ينطوي الأمر على شعورٍ بمصادرتك رأي شريحةٍ كاملةٍ من القرّاء أهملها السرد العربي طويلاً، وممارستك نوعاً من الوصاية عليها. وأصل الكتابة للفتيان مسؤولية عظيمة لا تخلو بدورها من صعوبة، وحين يدقّ بابها كاتب أصاب نجاحاً واضحاً في ميدان آخر، تتساءل في ذاتك عمّا قد يدفعه إلى خوض مغامرة مماثلة، قبل أن تتذكر أن الكتابة مغامرة في جميع الأحوال.الكلام هنا عن الروائي اللبناني محمد طرزي (1983) الذي صنع لنفسه بصمة مختلفة بين أقرانه بفرادة أسلوبه واختياره لموضوعاته. كرَّس مشروعه الروائي الأساس «ثلاثية الحلم الأفريقي» لتناول المدة التي حكم فيها العرب شرق أفريقيا في سلسلة من رواياتٍ ثلاث. روايته الجديدة مخصَّصة للفتيان تحمل عنوان «سرّ الطائر الذي فَقدَ صوته» (الدار العربية للعلوم ناشرون ـ بيروت) تدور أحداثها حول «كنان»، الفتى الذي يخوص باكراً تجربة الكتابة الأدبية، متأثراً بكاتبه المفضل فؤاد نجّار الذي انتقل للإقامة في حيّهم. يحصل كنان على مؤلفات نجّار من مكتبة «البؤساء» العائدة لأبي عامر صديق والده، ويزداد انبهاره بالكاتب بعد قراءة روايته الأخيرة «القلم السحري» التي تحكي عن كاتب يعثر مصادفةً على قلم ذهبي، حبره مصنوع من دم طائر فَقدَ صوته!


وإذا كان للكتّاب أن يختلفوا على جواز اقتصار وظائف النص الأدبي الموجّه إلى الكبار على الإمتاع، من عدمه، فإنّ تحميل النصوص المخصَّصة للناشئة بالرسائل يبدو أمراً بديهيّاً ومقبولاً بل مطلوباً بالنسبة إلى الجميع. رسائل ليست بالضرورة تربوية أو أخلاقية، فإن كانت الرواية تمرّ بشكل لطيف على موضوع مثل التنمّر من وجهة نظر تربوية وأخلاقية، فإنّ رسائلها الأبرز التي تفصح عن نفسها سريعاً وإن احتواها السرد بشكل متقن ومدروس، تدور حول النظرة إلى القراءة والكتابة، حتى يصحّ عدّها «نصائح إلى قارئ وكاتب على أبواب الشباب».
تقديم هذه الجزئية على الجوانب الفنية في الحديث عن الرواية، يعود إلى الأهمية البالغة لهذه الرسائل ومجيئها في أوانها. بعد عقود من الحديث عن أزمة قراءة في الوطن العربي، بات الحديث ممكناً اليوم عن «طفرة قرائية» لافتة لدى جيل الشباب، ولدت وتزامنت مع إقبال محموم على الكتابة، في علاقة طردية أوحت بأنّ الأولى ممرّ إلزامي للثانية والثانية نتيجة طبيعية للأولى.
يلاحظ المراقب للمشهد من كثب أن القراءة تحولت تدريجاً من وسيلة لتحصيل المتعة وتنمية المعارف، إلى طقس استعراضي يمنح صاحبه أفضلية معنوية على أقرانه، وجاءت مبادرات كثيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتكرّس هذا الاتجاه، وخصوصاً في ظل أزمة كورونا والحجر المنزلي الذي صبّ «نظريّاً» في مصلحة الكتاب، وتحوّلت مشاركة الفرد سنوياً عناوين الكتب التي قرأها، في الحيّز المخصَّص له في الفضاء الافتراضي، بهدف تحريض سواه على القراءة وتقديم اقتراحات جديدة لهم، إلى تعدادٍ نصف سنويّ ثمَّ شهريّ ثمَّ أسبوعيّ ثمَّ يوميّ!
أما الكتابة التي طغى عليها الاستسهال، فقد تحوَّلت إلى وسيلة ارتقاء اجتماعي لكل من يملك كلفة طباعة بضع مئات من النسخ من خواطره المبعثرة، متعللاً بأنه قرأ من الكتب ما يكفي لتحويله إلى كاتب.
لعل محمد طرزي يحاول في روايته استدراك ما يمكن استدراكه، عبر قطع طريق هذه الظاهرة الفوضويّة أمام الجيل القادم من الشباب، إذ صار من الصعوبة إقناع أبناء الجيل الحالي بالتروّي بعدما ذاقوا حلاوة ألقابهم الجديدة.
أزمة كورونا صبّت «نظريّاً» في مصلحة الكتاب


«أراد أن يسأله كيف عرف أنها رائعة وهو لم يقرأها»، «القارئ النهم يا بني ليس مَن يقرأ كأنه يعدو في سباق، بل مَن يقرأ برويّة متنزّه في حديقة. لا تبالغ في القراءة، ولا تبتلع الكتب من دون فاصل للتفكير وإلا فلن يتسنّى لك هضمها»، «على الكاتب أن يعرف إلى أين يتجه نصّه، لذلك عليه وضع تصميم ما، لكن الكتابة الحقيقية تبدأ لحظة الانحراف عن التصميم»، «يكتب باليد، وينقل لاحقاً ما يكتبه إلى اللابتوب، هناك خيط خفيّ يربط الخيال بالذهن، باليد، بورقة الكتابة»، «على الكاتب أن يبتعد عن نصّه مسافةً زمنية كي تتسنّى له قراءته بعين الناقد، حينها فقط يمكنه تحديد مدى موهبته»، «إن أردت احتراف الكتابة يا صديقي تذكر عبارة أرنست همنغواي: إن الكتابة تبدو سهلة غير أنها في الواقع أشقّ الأعمال في هذا العالم»... هذه النصائح والخلاصات، وغيرها، ضمَّنها محمد طرزي روايته على لسان فؤاد نجّار، وعامر ابن بائع الكتب، وكنان والراوي، في سياق سردي محكم وآسر وبالغ التشويق، مطبّقاً ما أورده في الرواية على لسان أبي عامر حول الكتابة للفتيان: «أن تكتب للفتيان يعني أن تكون الحبكة مخصَّصة لهذه الفئة العمرية، أما اللغة، فيجب أن تكون دائماً بمستوى جيد، إذ على الكاتب أن يتحدّى قراءه الفتيان لتطوير مداركهم والارتقاء بذائقتهم الأدبية».
وإذا كان العنوان يبدو في البداية مقحماً خلافاً للواقع، لارتباطه حصراً بواحدة من روايات فؤاد نجّار، الشخصية الرديفة لبطل الرواية كنان، فإنّ الغوص في صفحات الرواية سيقود القارئ إلى تقاطعات سردية مفاجئة، تشترك فيها الشخصيات المذكورة مع لاعب كرة القدم ماجد، وناديا ابنة الكاتب، والرسام نبيل «بيكاسو»، بما يجعل العنوان في صلب أحداث الرواية وفي صلب رسالتها الأهم، وهي أن الإبداع لم يكن يوماً وليد خرافة خارقة للعادة، بل كان على الدوام وليد إرادة فذّة خارقة للعادة، وأن الإلهام لا تولّده إلا القراءة والتجارب.