«دُو، يَك» هي رمية النرد التي غالباً ما تودي في لعبة الزَّهر إلى الخسارة، وغالباً ما تُشير إلى قِلّة الحظ؛ وبهذا التكثيف العالي تشير القاصة السورية روعة سنبل إلى ثنائيّة «الخسارة/ قِلّة الحظ» التي طالت كلّ سوري بعد عشر سنوات من الحرب. من خلال العنوان الذي حملته مجموعتها القصصية «دُو، يَك» الصادرة عن «دار ممدوح عدوان». عبر 15 قصّةً، تَقصُّ سنبل الحكايات، بما يتوافق مع عدد أحجار النرد التي تكون في يدِ اللاعب، إذ توزّعُها ضمن ثلاثة فضاءات: «ذاكرة»، و«دروب»، و«ليل»؛ ليتميّز كلّ فضاء منها بمفرداته، وسرديّته، وشخوصه التي يجمعُها الخذلان والتعب.

يرمز عنوان القسم الأول «ذاكرة» إلى ذاكرة الحرب المشوّهة، وما تركته من نُدوب نفسيّة وأمراض جسديّة. يتضمّن القسم خمس قصص، تتخذ القاصّة من أفراد العائلة أبطالاً لها، ومن المنزل ساحةً لمجريات أحداثها، وتحديداً المطبخ الذي يظهر بمفرداته بشكلٍ جَليّ. ليس ذلك بالأمر الغريب على القاصّة ما دامت ابنة الشام التي تشتهر بمطبخها. ومن رغيف الخبز برمزيته العالية، تنطلق في قصّة «أحدهم يحاول أن يُخبرنا شيئاً»، لتحكي لنا عن امرأةٍ تركت آثار الحرب في نفْسِها ما تركته من صدماتٍ نفسيّةٍ، أوصلتها إلى اكتئابٍ مُزمنٍ، أوصلها بدوره إلى الإصابة بالباريدوليا. تبدأ بتخيّل رموزٍ وصورٍ على رغيف الخبز. تنجح القاصّة في تصوير رموز الحرب وآثارها القاتلة، من دون أن تتطرّق إلى الحرب بشكلٍ مباشرٍ: «تعاقبت الأيّام والأرغفة، وبنظرةٍ واحدةٍ، صُرت حين أحمل أيّ رغيف، أستطيع قراءة الإشارات والرموز كما تقرأ عرّافة خطوط الكفّ، ثمّ أنسخ الرسائل المشفّرة على دفترٍ صغيرٍ، وأكتفي بالصمت. رؤوسٌ مقطوعةٌ لها عيونٌ متّسعةٌ بذعرٍ، تلالٌ من الرماد، ومقصّات وسكاكين، ووجوهُ جلّادين، وشاهدات قبورٍ، وفزّاعاتُ عصافير، وشموسٌ مُطفأة، وعناكبُ سوداءُ بسيقانٍ مُشعرة، وفراشاتٌ بأجنحةٍ مقصوصةٍ، ملأت هذه الرموز وغيرها أرغفتي ودفتري، بدَت كنداءات استغاثة، أراها في كلّ شيء حولي، تسكن صرخاتها رأسي، وحين أنام تحتلّ كوابيسي. أهملتُ نفسي وزوجي، وأطفالي، عافت نفسي الطعام والحياة، اضطربت ذاكرتي، واختبأتُ خلف صمتي. – ليست هلاوس، أحدهم يحاولُ أن يُخبرنا شيئاً. قُلت». تتبّع الصوت القادم عبر الرموز التي تراها بمفردها. صوت تعتقد أنّه يريد أن يُخبرنا شيئاً، تتّبعه إلى مصدره القادم من الفرن، لترمي نفسها في بيت النار؛ وهي بذلك تخبرنا بسورياليّةٍ كم أصبحت لقمة العيش مُغمّسة بالدّم والقهر. ومن رغيف الخبز، إلى جرزة البقدونس في «الرأس على الرأس»، والجدّة التي تُعلّم حفيدتها قوانين أعمال المنزل المتوارثة، وأصول الطبخ، والفرق بين أصول ترتيب الكزبرة والبقدونس، تقول الجدّة: «أمّا البقدونس، هيك... الراس ع الراس، شايفة كيف؟ الرااااس ع الراس». تكبر الفتاة، تتزوّج، تُفرّق الحرب الأبناء والأحفاد، لينتهي المشهد بجنازة الجدّة، واقتراب الحفيدة من جثمان جدتها، واضعةً الرأس على الرأس، الجبهة إلى الجبهة، والخدّ ملاصقاً للخدّ، هامسةً وهي تبكي: «الراس ع الراس يا ستّي، شايفة كيف؟ الرااااس ع الراس». تتابع في القصص الثلاث الباقية، سرد حكايات عائلات وجدّات مُستخدمة مفردات البيت الحميمية، التي تخدشها الحرب، وتُلحِق بها التشوه.
في القسم الثاني «دروب»، تأخذنا القاصّة إلى فضاءٍ مُغايرٍ، فنخرج معها من البيت إلى الشارع ووسائل النقل العامة حيث تدور أحداث الحكايات. بين الفقر ووِحدة أب ماتت زوجته وهاجر أبناؤه، وزوجة صبيّة هاجر زوجها سَعياً إلى وضعٍ معيشي أفضل، وأمّ استشهد ابنها وتركَ لها طفلته لتُربّيها، لا تنسى القاصّة أن تروي بعض التفاصيل الأنثوية لعالم المرأة وما يدور فيه من عناية واهتمام رغماً عن أنف الفقر. هذا ما صوّرته في قصّة «عيّوش» المرأة العشرينية التي تعمل في تنظيف منزل الحاجّة أمّ موفق مرتين أسبوعياً، لتحصل على المال الذي يُمكّنها من إعالة عائلتها. تدس تِفل القهوة المُتبقي في كيسٍ أسودَ صغير، لتستخدمه لغايات تجميليّة: «وقفت عيّوش عند حوض الجلي المُمتلئ بالأواني المُتّسخة، فتحت الصنبور، وقبل أن تغسل تِفل القهوة الملتصق بأسفل الفناجين والركوات، التفتت حولها، وحين لم تجد أحداً، جمعَت التِّفل بالملعقة، وضعته في كيسٍ صغير، وخبّأته بسرعةٍ في صدرها بيدٍ مرتجفة. والليلة، وبعد أن تحلق شَعرَ جسدها، ستضع التِّفل في الإبريق، ستُضيف الماء الدافئ، وتحرّك قليلاً، ثمّ ستغسل بالسائل البنّي الفاتح أطراف شعرها، أمّا العجينة الداكنة الرّاسية في الأسفل، فستدهن بها جسدها، ستنتظر ربع ساعة، ثمّ ستشطف الشّعر والجسد، وستحصل على «نعوووومة الحريييير»، هكذا قالتها المذيعة في الراديو صباحاً حين كانت عيّوش في الباص».
تعتمد أسلوب التورية وإزاحة المعنى والإحالات المكثّفة


في القسم الثالث «ليل»، يتّسع فضاء الحكايات، ويتنوّع ما بين البيت وحمامات الحديقة العامّة، الشارع، باص النقل العام، كأنّها بذلك تقوم برصد شامل لحياة دمشق التي حوّلتها مخلفات الحرب إلى حياةٍ بائسةٍ بكلّ مساحاتها وعلى اختلاف شخصياتها. في «أميرة التي تعرّف»، سنقرأ عن المرأة التي تعمل في تنظيف حمامات حديقة عامّة، وقد صارت في لحظة الحرب ملجَأً أكثر أماناً على قذارتها. هنا تسمع المرأة وترى حكايات الناس، فتصبح مع تراكم السنين تعرف كلّ شيء عن هذه المدينة، حتّى الأقبية المُظلمة التي زارتها للسّؤال عن ابنها المعتَقل، التي لا تعرف عنه شيئاً. وفي «صبيّ المشنقة»، تسرد قصة صبي مشرّد يستلقي منبطحاً فوق سقف موقف الباص، وكلّما اقترب شخص، يرمي حبل مشنقة لإخافته كنوع من المزاح الثقيل، إلى أن يُمسك به أحد الرجال ويبرحه ضرباً، لتتحوّل مشاعر المارّة إلى تعاطفٍ كلّيٍّ مع هذا الصبي، بعد أن يصرخ وهو مُلطّخ بالدم والدمع: «شنقوا أمي، شنقوها.... مَن هم؟ كيف شنقوها؟ ولماذا؟ لا يجرؤ أحدٌ على السؤال، نتبادل فقط نظراتٍ خائفة، ويزحف البرد إلى الأجساد، بردٌ أعرفه جيداً، قاسٍ، يجعل العظام تتألّم والقلب يرتجف. يقف الصبي متّكئاً على ذراع الشاب، تناوله امرأةٌ قنينة ماءٍ بلاستيكيّة صغيرة، يدلق الماء في حلقه دفعةً واحدة، ثمّ يتحرّر من ذراع الشاب، ويقذف القنّينة بعيداً، يمسحُ بباطن كفّه المخاط والدم عن أنفه وهو يتلفّت حوله، يجرجر قدمَيه بصعوبةٍ نحو الحبل الملقى على الأرض، يضعه على كتفه، يدير ظهرَه ويهمُ بالانصراف، ثمّ يلتفت نحونا فجأة، يبصق علينا، ويغرق في الضحك، يتسلّق «كابينة» موقف الباص، وينبطح هناك مع حبله».
وبذلك، تنقل لنا القاصة عبر مجموعتها، ملامحَ مدينة نهشتها الحرب، مُعتمدةً أسلوب التورية وإزاحة المعنى، تاركةً للقارئ فَك كثير من الشيفرات والإحالات المُكثّفة.