«بُنيت هويّة الشعوب البدائيّة على نشوة شامانيّة، على هذه العلاقة الافتتانيّة مع العالم الآخر، حيثُ يستطيعُ كلّ رجلٍ، بفضل هبة الأحلام، أن يختلط بالدنيا الثانية» (جان ماري غوستاف لوكليزيو: «الحلم المكسيكيّ أو الفكر المبتور» ص 164)في زاويتكَ المفضّلة في مقهى «العَالَم» بساحة السراغنة، حيث تجلسُ يوميّاً لشرب قهوتك المركّزة، استعرت الجريدة من أحد الزبائن، ثمّ قرأتَ خبراً طريفاً عن عثور علماء مكسيكيين، بين أنقاض وأحافير موقع أثريّ معروف، على قرص حجريّ يعود إلى حضارة المايا عمرهُ ما يقرب من ألف عام.

حَجَرُ الشَّمْسِ: روزنامة من عصر الآزتيك (المكسيك ــــ 1479)

القرص ذاته، الذي يبلغ قطرهُ قامة إنسان تقريباً ووزنه تسعين كيلوغراماً، كان منحوتاً بكتابة هيروغليفيّة مستعصية، تعجّ حوافها الدائريّة برؤوس سهام صخريّة مسنّنة، وعظام بشر مضحّى بهم على المذابح، وهو يصوّر على نحو مبهرٍ معركة حربيّة غامضة، مقلوبة الأدوار بين محارب صيّاد صلب عتيد وامرأة ضئيلة قصيرة القامة؛ إذ إنّ المحارب الصيّاد، المسلّح بقوس، والمعتمر لغطاء رأس مزيّن بالرّيش، على هيئة عمامة أفعى ملكيّة مميّزة لراقصي الطقوس الشمسيّة في الأزمنة الغابرة، انبطح مثل طريدة صاغرة على ظهره متلوّياً منقبضاً من الألم، جرّاء إصابته بنصل حربة معدنيّ مدبّب في عظمة ساقه اليمنى، وعلى ما يبدو أنّ المرأة الملفوفة بوشاح من نمط زهرة الزنبق هي من سدّدت إليه هذا الرمح البليغ، كونها تمسك بيدها السّاق الخشبيّة المكسورة للرمح الغدّار. أعدتَ الجريدة إلى صاحبها، مخفورة بكلمة شكر وابتسامة، ثمّ نسيتَ أمر ذاك القرص الحجريّ العجيب، غير أنّه سرعان ما عاد في نفس اليوم إلى مهبّ حياتكَ على شكل حلم همجيّ، ثمّ تكرّرَ في غضون الأيام التالية من دون هوادة، إلى درجة كنت تصغي فيها إلى أصداء الصرخة المُعَذَّبَة للمحارب الصيّاد، وإلى الصيحات الرهيبة لضحايا الولائم الشعائريّة لآكلي لحوم البشر.
استعنت من الصيدليّة القريبة من بيتك بحبوب منوِّمة قويّة، لعلّ كوابيسك المهلوسة تضمحلُ إلى غير رجعة، إلا أنّكَ لما كنت تفيق من نومك عصر كلّ يوم ثقيلَ الحركة كقطعة صوّان، تكتشفُ أنّ جسدكَ شرعت تغزوه من جميع الأنحاء نقوش ورُقوش هيروغليفيّة آبدة من الحيوان والنبات.
بل الأدهى من هذا، أخذتَ تعثرُ وسط فراشك على بقايا وفيرة ممزّقة لريش وأوراق زنبق. تنظّفها بصعوبة بالغة مستعيناً بمكنسة، بالنظر إلى ما صرت تُلاقيه من عنتٍ في المشي، كما لو أنّ ذاك القرص الحجريّ انتقلت عدواه ونقمته إليك عبر معراج الحقب، وتقمّصَ بالكامل حجمكَ ووزنكَ، لتستحيلا معاً مثابةَ الصنوين اللّدودين.
وفي الأسابيع التاليّة، ليلة بعد ليلة، برزت ندوبٌ صغيرة على ظهرك كأنّها جروح سنان السهام، وطفقت عظمة ساقك اليمنى ترسل لكَ صداعاً ووجعاً لا يحتملان. فشلتَ في السير تماماً، وظللت ملازماً سريرك، مقتنعاً تمام الاقتناع أنّ نصل حربة معدنيّة مكسيكيّة (1) صدئة، تعود إلى ألف عام، نفذَ عبر عظمة ساقك الجريحة جرح لا يبين ولا يتجلّى، نفذَ بطريقة ما إلى شغاف فؤادك، كي يغدو هاتفاً غيبيّاً؛ و تحذيراً إلهيّاً تلقيتهُ من الماضي البدائي السحيق.
طوال شهرين كاملين، كان هاتفكَ الخلويّ يئنُّ مريضاً، ما بعدَ منتصف الليل، على وقع المكالمات الهستيريّة للمرأة المزعجة سيّئة الطباع، تلك التي تسلّلت إلى تربة حياتك كعشبة سامّة ذات جذر شيطانيٍّ... نذرتَ على نفسكَ أن لا تردّ عليها. لم ولن تردّ على الإطلاق براً بقسمك الجازم... وحين توقّف الرنين العدوانيّ لهاتفكّ، تخفّفَ وزنك، وغاضَت أوشامكَ في جلدك، واندملت جراحاتك، ثمّ انفرطَ إلى الأبد ألمُ عظمة ساقك!

المغرب
(1) إحالة: إنّها المكسيك الشامانيّة، تلك التي يحدث أن نسافر إليها أثناء النوم، أو الحلم، أو الغيبوبة، أو المرض، أو الكتابة، أو نشوة التخدير.. الجغرافيا الوهميّة المحاطة بسياج مصنوع من الأرواح. المكان البعيد تماماً، الذي «يمكن أن نتكلّم عنه، وإن لم نكن قد زرناه من قبل»، إذا ما رغبنا استعارة هذا القانون الأدبيّ الطريف من الناقد النفسيّ الفرنسي بيار بَيّارْ، الذي ألمح، تحديداً، إلى عدد من علماء الأعراق، الذين وصفوا أمكنة وشعوباً وعادات وتقاليد معقّدة، من دون أن يبارحوا بيوتهم، فمنحوا للكثير من الأماكن الخياليّة أو غير الموجودة أبعاداً واقعيّة جداً، على طريقة ﺃلبرتو مانغويل في «معجم الأماكن المتخيّلة»، أو ﺇيتالو كالفينو في «مدن لا مرئيّة»، وجيديون ديفوي في «أطلس البلدان المنقرضة». أنظر مقالة الناقد حسن المودن المعنونة بـ«في الأدب، ما معنى أن تسافر إلى مكان بعيد؟» ضمن كتاب «الأدب والتحليل النفسيّ» (ص.ص. 117-126).