كانت تراجيديا اغتيال غسّان كنفاني (1936 ـــ 1972) بمثابة لطمة ثلاثيّة الأوجه للفلسطينيين: فهم خسروا، مبكراً، قائداً بارزاً في العمل الثوريّ الممنهج لتحرير فلسطين، الأرض والإنسان، وعقلاً سياسياً ملهماً في التنظير للهوية الفلسطينية المستهدفة أبداً بالإلغاء والمهددة بالتلاشي، وأيضاً، موهبة أدبيّة رفيعة كان يمكن لها أن تسطع كما شكسبير فلسطينياً. لا نعرف، وقد لن نعرف، لأي من هذه الأدوار قرّر الموساد الإسرائيلي أن يستهدفه، لكن من هم مثل غسّان لا يموتون من الشيخوخة المفرطة في دوحة ما على الخليج، ولا تكتمل علاقتهم المعقدة بالخلود سوى برحيل مفاجئ ومؤلم وصادم. على أننا اليوم، عندما نقرأ كتاباته في الرواية والقصة القصيرة، ندرك كم كان خيال هذا الفدائيّ المدجّج بقلمه، خطراً على المشروع الصهيوني، ونقضاً تاماً لكل ما يمثله. لقد استعاد كنفاني لشعبه من فوضى الحرب، وصحراء المنافي، وعبثيّة الحياة-الموت، هويّةً مكتملة الأركان للفلسطيني المعاصر، تبهت أمامها كل هويات ساكني الشرق الأخرى التي ابتدعتها وزارة المستعمرات البريطانية سواء لقبائل العرب التائهة أو لقطعان اليهود المستجلبين.

كل نصّ لغسان كان قطبةً أخرى في نسج هذه الهويّة الموعودة أبداً بالحزن والترحال للشعب السادس في تخوم صحراء انتهت مقطّعة إلى خمس دول. لكن «ما تبقّى لكم» (1966)، مجموعة الحكايات المعلّقة في فضاء متردّد بين القصة القصيرة والرواية، تبدو أكثر أعماله قدرةً على الإيحاء بعذابات هذا الشعب المروعة عبر إيقاع غنائي أسطوري الطابع. لعلّ هذا ما يفسّر ذلك الفضول الغربيّ لقراءته مترجماً. مهما تغيّر جمهور المتلقّين عبر الأزمنة والأمكنة، فإن الحكاية الغسانيّة عن انتزاع الفلسطيني لهويته عنوةً من هذا العالم بقيت طازجةً كأنها دم الغزّاوي المسفوك بالأمس، وغائرةً في جرح الوجود الإنساني كما لو استُلّت من إلياذة هيروموس.
لـ «ما تبقّى لكم» ترجمة محكمة إلى الإنكليزية تشارك على إنجازها مي الجيوسي وجيريمي ريد منذ تسعينيات القرن الماضي، وقد أُعيد طبعها مرات عدة، قبل أن تصبح قراءةً ضروريةً هذه الأيّام لإرضاء الفضول المستشري بين الأجيال الجديدة في الغرب إلى معرفة من هو هذا الفلسطيني الذي تتداعى الأمم لحصاره وقتله وتهجيره، ومع ذلك ما زال يقاتل، ويأخذ الأسرى. الطبعة الأحدث صدرت أخيراً عن «دار أنترلينك للنشر» مع مقدّمة كتبها روجر ألان.
في قصّة «ما تبقى لكم»، التي فرضت اسمها على المجموعة واحتلّت 55 صفحة من مجمل الـ160 التي تتكون منها الترجمة، يروي كنفاني حكاية الفلسطيني حامد الذي يتحدث العربيّة فقط. يصادف جندياً إسرائيلياً يتحدث العبرية فقط، فيستحيل التفاهم بينهما وهما المحبوسان معاً، جدلاً يوميّاً. إن هذه اللّقطة العبقرية لطبيعة المأزق الرمزي ــ ذي الصدى التاريخي ـــ الذي يعيشه الطرفان، لا تجد لها حلاً في النهاية إلا في الموت العنيف لأحدهما. «أكان من الضروري أن ترتطم بالعالم على هذه الصورة الفاجعة؟» يسأل غسّان، الفلسطيني نفسه، ويجيب. وهذا طبعاً فهمه المستوطن الغريب تماماً، فقتل غسان بالأمس، وقتل ثلاثين ألفاً اليوم، وسيستمر في القتل حتى ينتفي الفلسطيني، ليمكن عندئذ، حصراً، لهذا الإسرائيلي الملفّق أن يولد، بينما تجّار الشتاء والصيف ما زالوا يبحثون عن صيغة أخرى للتعايش بين القاتل والمقتول. ألا يقرأ التجّار القصص القصيرة؟