عادة ما يشير البيت إلى دلالاته كسكن وكمستودع للنوستالجيا والحنين وغير ذلك. وتأتي سيرة البيوت لتلعب دور البطولة في رواية مريم حسين «السيرة قبل الأخيرة للبيوت» الصادرة عن «دار المرايا للثقافة والفنون» في القاهرة، فيما تثير أسئلة حول مفهوم الخصوصية والأمان، ومفارقات المتن المديني والهامش الشعبوي.تتداعى ذاكرة ميمي، بطلة العمل، فترصد صوراً ومشاهد وحيوات عاشتها وشهدتها مع عائلتها بين البيوت التي تنقلوا بينها، على مدى ثلاثة عقود تقريباً، وتُراوح بين بيوت العائلة، أي بيوت الجد والجدة، في مناطق مثل الفيوم، ثم المنازل الضيقة الصغيرة في ضواحي ريفية قرب القاهرة مثل بشتيل، ثم في منطقة شبه عشوائية في شارع فيصل، ثم في منطقة الهرم. فتغدو، وفقاً للسرد، كائنات حية تشعر بمن يعيش بين جدرانها، وتختزن أسرارهم وتنصت إلى أنفاسهم، أو تتأسّى لغيابهم وتعاودها البهجة إذا عادوا!

نيللي الشرقاوي ـــ «مدينة نصر2» من سلسلة «كرنفال» (صور معالجة على ورق «ايبسون» الفني ـــــ 2018)

يكشف السرد العلاقة بين ضيق المساحة بما يعنيه ذلك من تقييد مساحات الخصوصية وقلقلة معنى السكن، بينما تنفتح هذه المساحات الضيقة الخانقة على عوالم فسيحة من المشاعر والعلاقات الاجتماعية، تكشف بطن المجتمع المصري في الهامش.
إصرار من الأب على اختيار حياة متقشّفة في بيوت صغيرة وضيقة، كأنها ضريبة يدفعها المحامي الذي يختار الاستقلالية، والمثقّف اليساري الذي يشغف بالكتابة، لكنه يصرّ أن يعيش نصيراً للفقراء، يدافع عنهم ويعيش حياتهم تقريباً.
ونفهم من السرد أن بيت بشتيل هو بيت الطفولة والصبا، وبيت الشوربجي هو بيت الصبا وغالبية سنوات المراهقة والشباب، ثم يأتي بيت الهرم، بعد رحيل الأب، كملاذ يبدو كحلم؛ ممثلاً في شقة تضم ثلاث غرف وصالة، لكنها تكون محطة متأخرة تتحقق بعد وفاة الأب وزواج شقيقتين تغدو زياراتهما للمكان أمراً موسمياً.
لا يأتي السرد وفقاً لتراتبية الزمن، بل وفقاً لتداعيات الذاكرة، فالأحداث التي تتذكّرها ميمي في موقف محدد أو مكان معين، قد تحيل إلى مكان آخر، أو بشر آخرين. وأظن أن أحد مراكز قوة السرد في النص يتمثّل في الانتقالات بين الأماكن ومراحل الحياة وشرائح البشر المختلفة التي تغدو جزءاً من عوالم ميمي وعائلتها. فقد تحيل شخصية معاصرة من الجيران مثلاً إلى ذكريات طفولة في الفيوم، بكل تداعيات تلك الشخصية وأثرها على ميمي وعلى أفراد من العائلة، الجدة، الأعمام، وبينهم ثلاثة أشقاء ماتوا صغاراً، وتداعيات ذلك على الجدة التي لجأت إلى الرقيات والأحجبة وزيارة أولياء الله لأجل المولود الجديد الذي سيكون أباً لميمي لاحقاً.
ودعمت الكاتبة هذه التداعيات بسرد رشيق يناسب هذه التنقلات بوصفٍ لا يعدم حسّ سخرية لا يفرق بين مشاهد الحزن والضيق والخوف، أو بوصف مشاهد لعفاريت وأشباح لا يعرف القارئ أهي من وحي الواقع أو من فيض الخيال، وبين مشاهد أخرى تفيض بالحب والعواطف، وثالثة تصف مواقف من حياة فتاة مثقّفة تعيش حياة اختيرت لها لتقذف بها في أحشاء طبقات شعبية تتناقض مع المستوى الثقافي لعائلة يمتهن فيها الأب الكتابة مع المحاماة، وتقبل به الأم زوجاً رغم أنه لا يملك مهراً لها سوى مكتبته، وتتشرب منهما ميمي عشق القراءة والفنون، فتدرس الموسيقى وتغدو معلمة للموسيقى في مدارس مختلفة.
مساحة بيت بشتيل لا تزيد عن مساحة صالة كبيرة في منازل أخرى، في بناية صغيرة تقع وسط الحقول. وملاكها يعملون في ملء أسطوانات الغاز في بهور البناية بينما لا يتوقفون عن تدخين السجائر.
وبين مخاطر انفجارات أسطوانات الغاز المتوقعة في حالات كهذه، واستنشاق الغاز الإجباري المتسرّب باستمرار، تنشأ ميمي وشقيقاتها، بينما الأب يرفض كل اقتراحات الأصدقاء بزيادة دخله أو حتى السفر للعمل في الخليج. وبإصرار سوف يتسبّب في توتر علاقته بالزوجة تدريجاً. وأما بيت الشوربجي، بيت الصبا والمراهقة وجانب من الشباب، فيقع في وسط شارع أو حي يشيع بين بعض سكانه تجار المخدرات والبلطجية وسواهم.
ترصد الكاتبة صفات وسلوكيات الشخصيات المختلفة التي عكفت ميمي على مراقبتهم بدقة، بسرد شديد الحيوية، وبقدرة لافتة على السخرية. إذ تصف، بين ما تصف مثلاً، مطاردة رجال شرطة لسائق «تُكتك» (عربة مواصلات شعبية في بعض أحياء الريف وضواحي القاهرة الشعبية) يمتزج فيه وصف مشاعر الخوف بخفة الظل بمراقبة ملامح البطلة بين الخوف وضحكة تنفلت؛ باعتبار أن شر البلية ما يضحك أحياناً، في مرآة سائق «التُكتك»!
وبينما يبدو النص متتبعاً لحياة ميمي في عوالمها الغريبة، يرصد في الوقت ذاته طبقات من حياة نماذج من البشر من سكان هذه الأحياء من الجيران، أو من أصدقاء الأب الذين تبدأ علاقاته بهم كمحام يحصل لهم على حقوقهم؛ بالمجان في غالبية الأحوال، ثم تستمر كعلاقات صداقة متينة، أو بصداقاته التاريخية في الفيوم أو بطبقة المثقفين في القاهرة، وتسلّط ميمي الضوء على مفارقات حياتها وسط هذا الحي وضرورة تسلّحها مع أمها وشقيقاتها بالثقافة التي يمكن لهنّ بها أن يمنحن الأخريات الانطباع بأنهن يمتلكن المعجم الشعبوي اللازم للدفاع عن أنفسهن وحقوقهن إذا اقتضى الأمر، إضافة إلى تأثير حياة كهذه على الأم وصحتها وقرارها بارتداء الحجاب، ثم النقاب لاحقاً من دون أن يمنعها ذلك من الاستمرار في عادة التدخين، بل تتلقى السجائر الفرط من صديقاتها المتزوجات اللواتي يحصلن على السجائر من علب أزواجهن غالباً!
تلعب النوستالجيا دوراً جوهرياً في النص، حيث تتداعى ذكريات الراوية من بيوت الطفولة، من ألعاب ساذجة على سلالم البنايات، إلى قصص الحب الطفولية، وحكايات الجدة، ورحلات الصيد مع الأب الذي ورث عن أبيه حب الصيد وامتلاك الأسلحة لممارسة الهواية كلما أتيحت له الفرصة، وصولاً إلى شقق العشيق، الذي كان يتنقل بها لتوفير فرصة لقصّة حبه بميمي.
وفي الخلفية تأتي دائماً صورة الأب، المحامي المثقّف، الملهم، الذي حاول دائماً أن يوجد من تفاصيل حياته المتقشّفة ما يمنح به السعادة لبناته، ويبدو جلياً عمق العلاقة بينه وبين ميمي، إذ تشاركه اهتماماته، وتقرأ نصوصه وتعطيه رأيها، وتتحمّل مسؤولية مرافقته في أشهر المرض إلى المستشفى من أجل عمليات غسيل الكلى.
يصرّ الأب على اختيار حياة متقشّفة في بيوت صغيرة كأنها ضريبة المثقّف اليساري الذي يصرّ على أن يعيش نصيراً للفقراء


جانب آخر يتجلى في ملامح توتر العلاقة حين يشعر الأب بأنّ في خياراتها ما يثير قلقه، لكن إصراره على أن تتمتع بحقوقها في الحرية تجعله يعيش على حافة الخوف والقلق، من دون مخالفة مبادئه كمثقف يؤمن بالحرية. المبادئ التي اضطر الجميع بسببها أن يقبل الحياة على حافة الأمان، وحافة الخصوصية، وحافة الخطر. المبادئ التي لم تقتصر على إصراره أن يظل نصيراً للفقراء، كاتباً لا يشتهي الشهرة أو النجومية، بل تتجلى في الأناشيد التي كان يرددها لبناته منذ طفولتهن ليبث القيم التي حرص على أن تكون ثروتهن التي تعزيه عن أي شيء آخر. وأحياناً يرددها كأنه يذكّر نفسه بعهوده التي عاش حياته نصيراً لها.
تمكنت مريم حسين من إيجاد لغة تناسب هذا السرد الرشيق، وحقن النص بحسّ سخرية مدهش، والانتقال بين الزمن والمكان برشاقة، ووصف الشخصيات والمواقف والمشاعر الباطنية، بحساسية. كما أثارت الأسئلة حول الفوارق الطبقية والاجتماعية ومفهوم الغني والفقر في المجتمع المصري بذكاء، بل الإحساس بالذنب الذي ينتاب المتقشف إذا ما تيسرت أموره!
كما منحت النص حسّاً لافتاً بالصدق الفني، الذي لا يعبأ بتصنيف النص إذا ما كان سيرة ذاتية أو لا، محتمية بالشروط الأدبية والفنية التي أولتها كل عنايتها وأولياتها، ما يمنح هذا النص خصوصيته وثراءه الأدبي، وقدرته على إثارة الدهشة.

* روائي مصري