strong>صباح أيوب
في وسط أسواق العاصمة الإسبانية تنتصب واجهات أحد محالِّ الثياب المشهورة، وفيها عارضات شقراوات يلبسن آخر صيحات الموضة ويضعن كوفيات عربية حول أعناقهنّ. وفي الشارع التجاري المكتظ في العاصمة الدنماركية، كوبنهاغن، تستوقفك زاوية زجاجية خاصة تستلقي فيها عارضة «بلاستيكية» لا تضع سوى كوفية مرقّطة حول الجزء العلوي من جسدها. أما في اليابان فتعلو كوفيات سوداء وبيضاء مدموغة بماركة تجارية عالمية تحتها إشارة صغيرة تشير بخطّ رفيع إلى سعرها الباهظ (قد يصل إلى ألف دولار). وفي عرض الأزياء الأخير لأحد أشهر المصممين الأوروبيين لموسم 2007ـــــ 2008، كانت الكوفية السوداء والحمراء هي «العلامة» الفارقة التي ميّزت المجموعة لهذه السنة، أُضيفت إليها بعض الحلي والزخرفة. أما في شوارع نيويورك فهي تعرض عند الباعة المتجوّلين، والإقبال عليها كثيف، وخاصة من «شباب الصرعات». فما بال الموضة تتحرّش مرة أخرى برمز جديد من الرموز السياسية فتنسخه وتسوّقه وتبيعه، بغض النظر عن معناه الأصلي أو رمزيته عند معتمديه؟ ما بال الجماهير حول العالم تقبل على كل ما تقدمه الموضة من «صرعات» دون أي سؤال أو مساءلة؟ كيف تحوّلت الكوفية العربية من «تهمة» إلى أكسسوار؟ وهل بات «الإرهاب» على الموضة؟
الكوفية العربية التي لبسها منذ القدم أهل القرى والبدو لتميّزهم عن أهل المدن والحضر في منطقة الحجاز والعراق واليمن وفلسطين، والتي أستخدمها المقاتلون منذ عام 1936 للتمويه في عملياتهم النضالية ضد الاستعمار الإنكليزي والتي باتت اليوم ترمز بشكل تلقائي إلى المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي، ها هي تتربّع في هذه الأثناء في الواجهات الأوروبية والعالمية البرّاقة لتكون أكسسواراً جديداً يكمّل مشهداً تجارياً أقصى ما يريده الربح المادي الوفير.
هي ليست المرّة الأولى التي يرتدي فيها البعض الكوفية علناً كزيّ، وإن لم يكونوا من المقاتلين المعنيين مباشرة. فقد بدأ استخدام الكوفية بشكل غير رسمي وخارج الإطار الحزبي والحربي في السبعينيات مع الحركات التحررية واليسارية في العالم حيث وضع بعض «الملتزمين» الكوفية تعبيراً عن تأييدهم للقضية الفلسطينية، وخاصة أنّ الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كان يصرّ على وضعها في كل إطلالاته الإعلامية والعلنية، ما جعلها متلازمة مع القضية الفلسطينية وأحد وجوهها. وقد تحوّلت الكوفية حينها إلى رمز ثوري له دلالات معيّنة، واعتمدها الثوار والمواطنون العاديون على هذا الأساس. حتى إنّ البعض كانوا يلاحقون في الدول الغربية لمجرّد وضعهم تلك الكوفيات حول أعناقهم أو على رؤوسهم، كما اضطرّت معظم المحالّ التي كانت تبيعها خفية إلى سحبها من التداول مخافة الملاحقة والمقاضاة بتهمة «التحريض على الإرهاب»، فكان معظم الثوريين يعون خلفية ورمزية ما يلبسونه أو يعتمدونه شعاراً أو زيّاً. وهنا الفرق، بين تلك الحقبة واليوم.
ففي زمن الاستهلاك، والأسواق المفتوحة والتنافس على جذب الزبائن من مختلف بقاع الأرض، حوّلت التجارة العالمية كل الرموز و«الأيقونات» المقدّسة أو المكروهة من شعوبها، إلى سلع وموضة غايتها الربح فقط بغض النظر عما كانت وما زالت تعنيه أو تجسّده. فحجّم التسويق معنى القضية والثورة والنضال، فتحوّل الناس عن خلفية الرمز ومعناه ليلهثوا وراء شعار أصبح فجأة «على الموضة»، فيمـــــا كان يعدّ من بين المحرّمات اجتماعياً لدى الأجيال التي سبقت. ومن علامات التسويق المنفّر الذي «طال» بعض الرموز شخص الـ«تشي» (تشي غيفارا) الذي بات ماركة مستهلكة يجهل أغلبية من «يعتمدونه» في أزيائهم وسلعهم هويته أو سيرته الشخصية والنضالية.
واليوم، مع دخول الكوفية إلى «بازار» الاتجار بالرموز، تسجّل مواقع بعض دور الأزياء على الإنترنت، أكبر نسبة طلب من الزبائن على الكوفية العربية، والبعض سجّل اسمه على لائحة الانتظار (!). ومع استمرار وتزايد العنصرية تجاه العرب في إطار «الحرب على الإرهاب» التي أطلقتها الولايات المتحدة في الـ2001، وللتماشي مع «أحكام» الموضة العالمية، تذاكت المحالّ التجارية في الولايات المتحدة، وبررت تسويقها للكوفيات العربية بدمغها بإشارة «شالات ضد الحرب» قبل وضعها في الواجهة!