بشير صفير
في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1989 وقف روستروبوفيتش على ركام جدار برلين، وعزف ارتجالات على آلته التشيلو. ولم يكد يمرّ عام كامل، حتّى استعاد هذا الموسيقي المغضوب عليه، جنسيته الروسية بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي.
عازف التشلّو وقائد الأوركسترا مستيسلاف روستروبوفيتش توفي أمس، بعد شهر واحد من احتفال الكرملين بعيده الثمانين، حيث منحه الرئيس الروسي وسام «الاستحقاق» من الدرجة الأولى الذي يعدّ أحد أهم الأوسمة الروسية.
روستروبوفيتش المولود في العاصمة الأذربيجانية باكو، عام 1927، درس آلة البيانو قبل أن يتفرّغ للتشيلو، ويصبح من أهم رموزها في العالم. إلا أنّ التاريخ سيذكر روستروبوفيتش أيضاً كأحد المدافعين الشرسين عن الحرية، رجل دفع الثمن باهظاً لانتقاده النظام السوفياتي، ووقوفه إلى جانب أصدقائه الذين كان مغضوباً عليهم من النظام.
كان روستروبوفيتش مقرّباً من المؤلفـــــــــين الســــــــــوفيات الطليعيين الذين شهدت علاقتهم بالنظام محطات ساخنة، ومُنعت بعض أعمالهم أمثال سيرغي بروكوفياف وديمتري شوستاكوفيتش. دفاعه المستميت عن قناعاته كلّفه النفي عام 1974 بعدما بعث رسالةً مفتوحةً الى الوسائل الإعلامية انتقد فيها بشدّة الاضطهاد الذي يمارسه النظام، مدافعاً عن مواطنه الأديب المعارض وصاحب نوبل (1970) ألكسندر سولجنتسين الذي كان مغضوباً عليه. وفي عام 1978، سيجرّده النظام من جنسيته السوفياتية بسبب مواقفه. وفي مقابلة أجرتها مجلة «ستراد» مع روستروبوفيتش عام 1997، قال: «تألمت كثيراً حين نزعوا عنّي جنسيتي. صحيح أنّ روسيا في قلبي وفكري. إلا أنّني تألمت لأنّني عرفت أنّني لن أرى بعد اليوم روسيا ولا أصدقائي إلا عندما أموت».
قبل أن يغادر الاتحاد السوفياتي، كان روستروبوفيــــــــــــتش قد نال «جائزة ستالين» مرتين (1951 و1953) و«جائـــــــــزة لـــــــــــينين» (1964). بعد نفيه، استقرّ روستروبوفيتش مع زوجته مغنّية الأوبرا غالينا فيشنفسكايا في العاصمة الفرنسية، ثم انتقل الى الولايات المتحدة حيث بدأت مسيرته الفنية كـقائد «أوركسترا واشنطن الوطنية». كانت تلك التجربة غير ناجحة مقارنةً بتجربته كعازف تشلو. وعلى رغم ذلك، لم يهملها ولا سيما في الفترة الأخيرة من حياته. إذ قام بأكثر من تسجيل لأعمال مؤلــــــــفين روس وخاصة شوستاكوفيتش وراخمانينوف مع الأوركسترا الوطنية الروسية.
اشتهر روستروبوفيتش ذو الابتسامة العريضة والعينين الزرقاوين، بحبّه للحياة ونهمه لملذّاتها. وحين سئلت ابنته مرةً عن حبّ والدها للفودكا والنساء والأصدقاء والأكل، أجابت: «إنّه رجل شهواني، شغوف بالحياة. وهذا جميل». لكنّ روستروبوفيتش يرى أيضاً أنّ الألــــــــــــم أساسيّ للفنّ بل «حـــــــــــاجة ضرورية لكل مبدع ومؤلف».
كان روستروبوفيتش من أبرز الموسيقيين الذين اهتموا بالأعــــــــــمال المعJاصرة. وكان الأوّل في تـأديJة العديد من المؤلفات التي كتبها معاصروه لآلة التشيلو منفردةً، أو مع مرافقة للأوركسـترا، ومعظمها كان مهدى إليه. كما قام روستروبوفيتش بتسجيلات كثيرة لأعمال تاريخية من عصر الباروك (متتاليات التشلو الست لباخ) والعصر الرومنطيقي (سوناتات التشيلو والبيانو الخمس لبيتهوفن التي سجّلها بمرافقة ريختر)...
وفاة روستروبوفيتش بعد صراع مع مرض عضال، نفت عائلته أن يكون السرطان، لم تسبّب لعالم الموسيقى الكلاسيكية سوى خسارة معنوية كبيرة. إذ لم يعد لديه الكثير ليقدّمه. لكنّ تسجيلاته الرائعة (في معظمها) هي إرث لن يقترب الموت منه، سيخلّد تاركه ويتحف أجيالاً لاحقة، إلى الأبد!