عبادة كسر
خرج الصوت مفاجئاً في حي الشراونة في بعلبك، تسمرت الوجوه عند النوافذ بحثاً عن الموسيقى العائدة من أزمنة جميلة، دف وغناء وطبلة، كانت الحركة هذه اختراقاً للهدوء الذي تغرق فيه بعلبك حيث يبدو أن أهلها استكانوا للإهمال اللاحق بهم منذ عهود.
بعد غياب عقود من الزمن عادت الى شوارع مدينة الشمس أمس “النوبة” التي تعتبر من وسائل التعبير الصوفي لأهل “الطريقة القادرية ــ والرفاعية”، وذلك نسبة الى العالمين عبد القادر الجيلاني وأحمد الرفاعي قطبي. هذه الطريقة التي انتشرت في بعلبك ومناطق لبنانية أخرى منذ عصور حتى عام 1943. ظل أهالي بعلبك يحفظون “النوبة” كما يعرفونها ويستمعون إليها إلى أن غابت عن شوارعهم هذه الطريقة إثر وفاة شيخها صالح عرفات.
أهالي حي الشراونة في بعلبك لم يعرفوا مسبقاً بالموعد الذي اختاره الشيخ أبو يوسف كسر (83 سنة) وأولاده عمر وخالد ويوسف وحسن، سار هؤلاء في الحي مع آلاتهم الموسيقية وقدموا “النوبة” لاستقبال الشقيق الخامس العائد من تأدية فريضة الحاج حسن كسر (30 سنة). وأرادوا أن يكون احتفالهم مختلفاً عما تشهده المدينة في استقبال مئات الحجاج سنوياً. جعلوه احتفالاً متميزاً بطقوس متنوعة كالضرب على الدف والطبل والصنوج، مترافقة مع أهازيج دينية تمتدح النبي محمد (ص)، إضافة الى قيامهم بضرب “الأسلحة” أو كما يقول الحاج كسر “أسلحة الشيش والسيف”.
تحوّل استقبال الحاج حسن كسر إلى احتفال شعبي، راقبه كثيرون، واستمتعوا به، وكان فرصة لاستحضار عادة قديمة تكسر روتين يوميات الأهالي.
خلال مسيرة “النوبة” قام كل من أحمد كسر وعلي الحموي، وهما من الشباب الملتزمين بهذه الطريقة القادرية ــ الرفاعية بضرب نفسيهما في منطقة البطن بالسيف والشيش أمام الحضور.
استمرت النوبة البعلبكية قرابة الساعة وحضرها جمهور من أهالي “الشراونة”، إضافة الى المارة الذين وقفوا يتفرجون على هذه الطريقة الصوفية التي غابت طويلاً عن بعلبك. ويقول الحاج خالد كسر إن “النوبة” عرفت ازدهاراً كبيراً وشهرة في مدينة بعلبك، وأضاف: “كان طلابها ومريدوها من كل المناهل الإسلامية، وكانت تشكل في ما مضى لقاء شبه يومي لكل أبناء بعلبك حيث كان يتولى إدارة شؤونها أشخاص من آل ياغي (خليل ياغي) وآل الرفاعي وآل كسر”.
ساعة واحدة شغلت الناس في بعلبك، صارت النوبة موضوع أحاديث الأهالي أمس، تناقل أخبار الاستقبال كثيرون، واستعاد المسنّون اللقاءات التي كانت تعقد في المدينة للتعريف بالنوبة أو تأديتها. وكان الاستقبال الذي أراده الحاج خالد كسر مناسبة لتعريف الصغار والشبان بوجه من وجوه تاريخ المدينة الثقافي إذا صح التعبير وبجزء من تقاليدها التي اندثرت.
ما قدمه الحاج خالد كسر وأولاده لم يكن مجرد استقبال مختلف لابنهم العائد من أداء فريضة الحاج، كانت محطة لاستذكار الماضي ومناسبة لإسعاد الأهالي المتعطشين إلى تغيير وإلى مناسبات للفرح في مدينة تزخر بالآثار ولكن الإهمال اللاحق بها يمنعها من التحول إلى مركز سياحي ــ ثقافي مزدهر.