منذ عام 2006، شكّلت صالة «متروبوليس» معقلاً لمحبّي سينما المؤلّف والإنتاجات المستقلّة وسط الكم الكبير من الصالات الخاصة بالسينما التجارية، وخصوصاً الهوليوودية. هكذا، أوجدت لها مكانةً راسخة في نسيج المدينة الثقافي، إلى أن جاءت الهزّات المتتالية التي شهدها لبنان في السنوات الأخيرة ليقضي على الصالة التي أقفلت أبوابها عام 2020. تتقاطع وتتشابه قصة «متروبوليس» مع حكاية لبنان في العقدين المنصرمين، مع كل ما رافقهما من أحداث وتحديات: كبوة ونهوض، فكبوة ورفض للاستسلام ومواصلة للتحدي بأشكال أخرى. انطلاقاً من ذلك، ها هي الصالة تعلن عن عودتها بحلةٍ أخرى، لكن بالمضمون والتوجّه نفسيهما: فالتجديد ليس فقط في الشكل والمكان، وإنما بالروحية والأصالة نفسيهما التي عهدهما محبّوها. بدأت حكاية «متروبوليس» في عام 2006، كصالة متواضعة في شارع الحمرا، وتحديداً في «السارولا الصغيرة» التابعة لـ «مسرح المدينة». لكنها سرعان ما اصطدمت بالواقع الأليم آنذاك، بعدما تزامن افتتاحها مع حرب تموز. وعوض أن تعجّ بالمشاهدين، تحوّلت إلى ملجأ للنازحين من آلة القتل والدمار الإسرائيليين. معمودية نار لم تحبط عزيمة القائمين على «متروبوليس»، وخصوصاً مديرة «الجمعيّة اللبنانيّة للسينما المستقلة ـــ متروبوليس سينما» هانية مروة وباقي فريق العمل الذين أقاموا أنشطة ثقافية وسينمائية للأطفال والعائلات التي التجأت إليها. لم تكن الحرب التحدي الوحيد الذي واجهته «متروبوليس»، فالتحدي الأكبر كان ولا يزال محاولة النهوض بالثقافة السينمائية في لبنان وتقديم فنّ مختلف عن الأنماط الاستهلاكية والتجاريّة الرائجة. أثمرت البذور التي غرستها «متروبوليس»، فنما جمهورها، وباتت بحاجة إلى مساحة تتسع لعدد أكبر من المشاهدين، فكانت النقلة بعد عامين، من الحمرا إلى الأشرفية وتحديداً إلى «سنتر صوفيل»، في صالتين كبيرتين لـ «أمبير» تتسع كل منهما لحوالى 270 كرسياً، فكان «متروبوليس أمبير صوفيل» الاسم الذي سيطبع الفضاء الثقافي لبيروت للسنوت القادمة.
وإذا كانت التجربة قد ولدت في شارع الحمرا، فإنها نضجت وتجذّرت في الأشرفية حيث تفجّرت الطاقات والمواهب وبلغت «متروبوليس» أوج تألقها طوال 12 عاماً، حيث تتالت المهرجانات والأنشطة ومُنحت فسحة أمل للمواهب اللبنانيّة والعربيّة وأصحاب الإنتاجات المستقلّة والفيديوات التجريبية والأفلام الوثائقية، ومدت الأيدي إلى الطلاب والشباب والمدارس...
على مدى أكثر من عقد، نجحت «متروبوليس» في غرس جذورها في الأرضية الثقافية لبيروت ولبنان بشكل عام، حتى بات حضورها جزءاً لا يتجزأ من النسيج المديني والإبداعي لأجيال تحتاج إلى من يؤمن بها ومواهبها. شاء حظ «متروبوليس» ربما أن ترتحل عن بيروت عام 2020 قبل انفجار المرفأ. حظ ليس في النجاة بمقدار ما هو تجنّب رؤية المدينة مدمّرة، بعدما أسهمت على طريقتها في جزء من نهضتها. أقفلت السينما أبوابها من دون أن توقف الجمعية أنشطتها، عبر التعاون مع عدد كبير من المراكز الثقافية في مناطق عدة. ولأن الحنين يبقى لأول منزل، كان لا بد لـ «متروبوليس» أن تعود إلى بيروت ولو بعد أربعة أعوام، وفي مكان له رمزية كبرى. من مار مخايل، مقابل أهراءات القمح المدمّرة على أرض وضعت في خدمة «جمعية متروبوليس» لمدة ثمان سنوات من قبل شركة Unifoncière S.A.L. فالقمح ينبت ولو بأشكال أخرى، وبذور الفن لا تزال تجد أرضية خصبة لها في بيروت. تشرح زينة صفير، رئيسة «الجمعيّة اللبنانيّة للسينما المستقلة ـــ متروبوليس سينما» أن «الافتتاح الأولي سيكون في حزيران (يونيو) المقبل، على أن يكون الافتتاح الأشمل في أيلول (سبتمبر). وسيضمّ المقر الجديد لسينما «متروبوليس» الذي صمّمته وأشرفت على تنفيذه المهندسة المعماريّة صوفي خياط، صالتي سينما، واحدة تتسع لـ 190 شخصاً والثانية لـ 90 شخصاً، إضافة إلى مساحة خارجية تتسع لـ 350 شخصاً وتتضمن سينما في الهواء الطلق، ومقهى ثقافياً. كذلك، سيضم المقر «سينماتيك» تحوي داتا ضخمة للأفلام اللبنانيّة، و«هناك عمل جاد لتطوير السينماتيك من حيث ترميم الأفلام والحفاظ عليها». أما بالنسبة إلى البرامج والمشاريع المرتقبة، فـ «ستعود متروبوليس بأنشطتها المعهودة من مهرجانات وعروض أفلام و Ciné Concert ومساحة مخصّصة للسينما اللبنانيّة والعربيّة، إضافة إلى إنفتاح على سينما الشرق الأقصى وأميركا اللاتينيّة وأوروبا الشرقيّة وأفريقيا التي لم تأخذ مساحة كافية في بيروت. ومن المهرجانات المرتقبة في أيلول مهرجان «شاشات الواقع» الذي سيعرض عدداً كبيراً من الأفلام الوثائقية المحليّة والدوليّة. كذلك، ستواصل «جمعية متروبوليس» جهودها لناحية التعاون مع الطلاب والمدارس وعروض الأفلام في المدارس، الذي نعدّه من أبرز وأهم مشاريعنا، إذ يسهم في بناء جمهور واعٍ ويسمح بخلق نقاشات فكرية عميقة. ومن ضمن خططنا للاستثمار في الشباب وفي الغد، سنعيد إطلاق مهرجان الشباب».
لاقت الجمعيّة منذ تأسيسها دعماً من ممولين محليين وأجانب. ولأن مسألة التمويل الأجنبي باتت عرضة لعدد من التساؤلات لناحية المشاريع والأهداف والرسائل، تؤكد صفير أن «منذ انطلاقتها، حافظت «متروبوليس» على استقلالية في خياراتها وتوجّهاتها، ولم تفرض عليها أي شروط في طريقة عملها، فمواقفنا وهويتنا عربيّة ولم نرضخ يوماً لأي تمويل، ونعرف كيف نختار شركاءنا الذين يشاركوننا الرؤية نفسها». وحول التحديات من حيث الاستثمار في الفن في مراحل الانحطاط الثقافي التي تمر بها المجتمعات عادة كحال مجتمعنا اللبناني، وخصوصاً بعد الأزمة الاقتصاديّة التي عصفت بالبلاد، وحولت اهتمامات معظم اللبنانيين نحو الشؤون الحياتية الأساسية، ترى صفير أن «العودة ليست سهلة أبداً. واجهنا عدداً من الصعوبات، لكننا اعتدنا أن نقاوم للحفاظ على مكانة معيّنة للثقافة في لبنان، ولو كانت أصعب كل يوم». وتلفت إلى أنه «من إيجابيات افتقارنا إلى مقر ثابت منذ عام 2020 عملنا في مناطق مختلفة من لبنان ووصلنا إلى شرائح واسعة ومختلفة من المواطنين، وهو ما يستكمل أيضاً نشاطنا في المدارس الذي يسمح لنا بالتواصل مع النسيج المجتمعي بأكمله».