خلال مطالعة السيرة الذاتيّة «علامات الدرب» للصحافي العريق سليمان الفرزلي (صدرت في لندن عن «اللبنانيّون المتّحدون للصحافة والنشر»)، استوقفتني محطّات يرفع فيها الكاتب الستار عن أسرار تاريخيّة خطيرة. عاصر الفرزلي أغنى العقود بالأحداث وعرف أبطالها عن قرب، ولا سيما منهم أركان حزب البعث ابتداءً من مؤسّسه ميشال عفلق.
آخر مرّة اجتمع فيها الفرزلي إلى عفلق في قصر الرشيد ببغداد كانت عام 1975. كان مؤسّس البعث قد غادر لبنان عقب انفجار الحرب بعدما غادر سوريا عقب صدور حكم بإعدامه. وصول البعث إلى الحكم في العراق وسوريا عن طريق الانقلاب العسكري كان من مضاعفاته تلطيخ صورة عفلق. يقول الفرزلي: «أُسيء فهم أو تشويه فكرة عفلق الأمّ حول مبدأ «الانقلابيّة» لاستنهاض الأمّة.
فقد خلط كثيرون وما زالوا يخلطون بين الانقلاب العسكري للوصول إلى السلطة، و«الفكرة الانقلابيّة» التي نادى بها عفلق منذ خطابه المشهور على مدرج جامعة دمشق في الخامس من نيسان 1943 بعنوان: «في ذكرى الرسول العربي».
«وغنيٌّ عن القول إنّ مضمون هذا الخطاب هو من المرتكزات الفكريّة الأساسيّة لحزب البعث، إنْ لم يكن المرتكز الأساسي». ويضيف مدافعاً: إنّ «الحملات المغرضة التي استهدفت عفلق للنيل من شخصه أو من حزبه أو من أفكاره، أو حتى من السلطة التي حكمت باسمه، لم ينقطع سيلها منذ بروزه على المسرح العام ككاتب في مجلّة «الطليعة» مطلع الثلاثينات من القرن الماضي ثم كوزير للمعارف في سوريا أواخر الأربعينات، مروراً بالوحدة (مع مصر) والانفصال، وبالسلطة البعثيّة في دمشق وبغداد، إلى اليوم بعد مرور عقدين على وفاته». ويذكر من عناوين تلك الحملات قول أخصام الرجل إنّه لم يأتِ بجديد وإنّ أفكاره مستوردة من النظريّات اليساريّة والماركسيّة، وإنّه «اغتصب اسم الحزب من المؤسّس الحقيقي للبعث وهو زكي الأرسوزي وإنّه استلهم أفكاره من تعاليم الأرسوزي (...) وبعد اتهامه بأنّه سطا على أفكار الأرسوزي (في أغلب الظنّ أنّ الأرسوزي نفسه هو الذي روّج هذا الافتراء) قالوا عنه إنّه سطا على شعبيّة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر».
وعن موقف عفلق من صدّام حسين يستخلص الفرزلي من لقائه الأخير في قصر الرشيد بمؤسّس البعث أن «عفلق كان ينظر بخوف وقلق إلى ما يجري في الحزب وعلى صعيد السلطة في العراق، ولم تكن لديه الرغبة أو الجرأة في مواجهة الأمر علناً وعلى رؤوس الأشهاد (...) كان يريد من آخرين أن يتولّوا المهمة ليقف وراءهم. وهذا ما لم يكن أحد مستعدّاً أن يفعله، خصوصاً في وجه صدّام حسين».
وعن اعتناق أو عدم اعتناق عفلق للإسلام، الأمر الذي ما زال ملتبساً لمعظم المهتمّين، يقول الفرزلي، الذي تحاور مع عفلق في الموضوع مراراً في بيروت، إنّ الأخير في كلامه على الإسلام «لم يكن يقصد هذا الإسلام القائم بكلّ تفرّعاته ومندرجاته وطقوسه، بل كان يعتبر هذا الإسلام في واقعه الراهن مرضاً من الأمراض العديدة المستشرية في الأمّة. فالإسلام عنده هو الحالة المحمّديّة التي استنهضها الرسول العربي في روح الأمّة (...) أمّا الإسلام الراهن فهو صيغة للعيش في الماضي ولا تعبّر عن مستقبل الأمّة (...) كان عفلق يحلم بأن يكون البعث العربي الاشتراكي هو الإسلام الجديد ليؤدّي الرسالة التي عبّر عنها في مرحلة سابقة دين محمد. فالإسلام له ما قبله في التعبير عن روح الأمّة، وسوف يكون له ما بعده، بل تَجَسَّد فيه من ضمنه ما بعده في فترات معيّنة، وكان يعتبر أنّ البعث هو واحدٌ من هذا الما بعد من ضمنه».
على صعيد المسألة اللبنانيّة، يوضح الفرزلي أنّ عفلق كان يعتقد «أن مشكلة العروبة في لبنان هي مشكلة تقدميّة العروبة»، خاتماً بالقول: «إنّ إسلام ميشال عفلق هو هذا الذي فهمته منه، سواء صحّ أم لم يصحّ ما ادّعاه نظام صدّام حسين عن اعتناقه الإسلام تبريراً لجنازة إسلاميّة على الطقوس البغداديّة، لأنّ ذلك يبقى في الشكل ولا يلامس الجوهر».
يخرج سليمان الفرزلي بانطباع مؤلم هو أنّ عفلق كان يعيش غربةً روحيّة داخل حزبه. ويخرج القارئ بانطباع أشدّ إيلاماً هو أنّ عفلق كان يعيش غربةً روحيّةً داخل حزبه وداخل أمّته. وقد لا نبالغ إذا قلنا وداخل ذاته. بصرف النظر عن إسلامه أو عدمه. غربةُ المثاليّ الحالم في واقعٍ فظّ وانتهازيّ، وغربةُ المفكّر والمُنظّر في جغرافيا من الدسائس والدبّابات. لا نعتقد أنّ هناك بين عقائديي العالم العربي مَن انتشرت عقيدته وحكمت أكثر من البعث ولا مَن كان منفيّاً في انتصاره أكثر من ميشال عفلق.
في «علامات الدرب» نزهاتٌ طويلة عبر التاريخ العربي المعاصر. من المنشأ اللبناني إلى رحاب الصحراء إلى مصر وروسيا وليبيا ولندن إلى حنايا الصحافة وجلاجلها. كتاب يُستحسن أن يطالعه طلّاب الإعلام وأساتذتهم والمهتمّون بالتاريخ العربي المعاصر.
سليمان الفرزلي برهانٌ شائق على أنّ الصحافي يستطيع أن يكون شاهداً شريفاً ومؤرّخاً موضوعيّاً كبيراً.
■ ندم «أوديب»
ـ كلّ بريءٍ مذنبٌ دون أن يدري.
ـ أمس كنتَ تقول العكس.
ـ أمس كنت أوديب قبل أن يكتشف الحقيقة.
ـ اليوم اكتشفتَ الحقيقة!؟ وما هي؟
ـ أنّك بريءٌ ما دمتَ أعمى، ومذنبٌ عندما تُبْصر.
ـ أوديب فقأ عينيه بعدما اكتشف الحقيقة. كلامك مقلوب.
ـ أوديب ظنّ خطأً أنّ العمى عقاب بينما هو الثواب. لقد منح نفسه الجائزة تحت ستار الندم.
■ لو عَرَف القارئ
أعظم موهبةٍ ليست الكتابة بل القراءة.
الكثرة ليست القرّاء بل الكتّاب. القرّاء أقليّة.
ما يقتل الكاتب هو القارئ الذي لا يسمعه. القارئ الذي يقول له: قرأتُ ولم أفهم. قارئٌ لا يقرأ.
أكذوبةٌ ساذجة ادّعاءُ الكاتب أنّه لا يكتب لأحد بل لنفسه. مثل قول حسناء إنّها لا تتبرّج لإعجاب أحد بل إرضاءً لنفسها.
نفسُهُ مؤلّفةٌ من الآخرين. كذلك نفسها.
نفسه ونفسها هما صورتهما عن الآخر.
لو عرف القارئ حجم مسؤوليّته عن الكاتب لما قرأ. لو عرف الكاتب مدى ارتهانه للقارئ لصَمَت. لو عرفت الحسناء مدى ارتباط وجودها بنظرة الآخر لبقيت في حماية رغوة الحمّام.
مَن هو القارئ؟ جمهور؟ ضمير؟ لا، القارئ هو الحبّ. والكاتب لا يبحث عن الحقيقة بل عن الحبّ.
كذلك الممثّل والمغنّي والأستاذ والشحّاذ. والرضيع والعجوز. والمرأة دائماً، وحيثما كان هناك امرأة.
عابــــــــرات
اختبئْ وأنتَ تفعل الخير كما كنتَ تختبئ لتفعل الشرّ.
أهمُّ من أن تُحَبَّ لرغبتك في الحبّ، أن تُحَبَّ رغم عدم رغبتك فيه.
في حالاتِ اشتداده، إذا لم تنفضْه عنك كالغبار، قد يقضي عليك الخجل!
لقاءَ كلّ حريّة تساعد في إذكائها لدى سواك، حفنةُ رمادٍ تضاف إلى قلبك.
ما انتشل أحدٌ أحداً من وحدته إلّا أوقعه بعدها في إحدى الوحدتين: زنزانة الأسر أو خيبة اليقظة.
المُصلّي يَستحضر النور. ما إنْ يركع حتّى يشعّ.
لا يؤلمك القَدَر بحرمانك السعادة فحسب بل يؤلمك أكثر بتحقيق السعادة لك وأنتَ مستثنى منها...
كما أنّك بحاجة أن تبتعد كي تقترب، أنت بحاجةٍ أن توغل في ذاتك الإيغال المطلق لتخرج منها أكبر منها.
ثِقْ أنّ كثيراً من الأوهام هي، في واقعٍ آخر، حقائقُ ضخمة.
في الصبا يبدو الجنس استقبالاً، وفي الكهولة انعتاقاً، وفي الشيخوخة نسياناً للذات. ولا مرّة هو ذاته، رغم رتابة الفعل. من هذه المسيرة ماذا يتبقّى في الذاكرة؟ مرور وعطور.
جسدُ المعشوق هواء.
ما دمنا لا ننجذب إلّا لعابدي أنفسهم فسوف نظلّ عبيداً.