يعيش أمراء الحرب في عالمهم، فيما «رعاياهم» يعيشون يوميات الحرب بعد سكوت المدافع قبل ثلاثين عاماً. إذ يدخل لبنان العتمة التدريجية، لا كهرباء ولا مازوت للموتورات التي شن وزراء العهد حملة عليها قبل أشهر، فيما يخزن «رياس» الصف الأول، وزعماء الحرب والسلم، محروقاتهم في خزانات خاصة. فيرخي قصر وادي أبو جميل أضواءه الليلية على بيروت، وتشعشع أضواء منتجع التيار الوطني الحر في اللقلوق وإمارات المختارة والمصيلح ومعراب وبنشعي وبكفيا وبكركي والقصر الملحق بها، وغيرها من بيوت سياسيين ومصرفيين لم تسمع بأزمة المحروقات، ما دام هناك من خزّنها لها، ولم تسمع أن اللبنانيين يعيشون تحت وطأة العتمة بكل ما يترتب عليها، فتضاف الى مصائب حياتهم اليومية أنه حتى الشموع التي يضيئونها لصلواتهم وقديسيهم أصبحت مفقودة.
ليست الكهرباء سوى الجزء الذي يكشف فداحة الخسائر اليومية في سلسلة مترابطة، من كهرباء مقطوعة، تؤدي حكماً الى انتفاخ فاتورة المولد الكهربائي الذي ينقطع لساعات طويلة بسبب فقدان المازوت، ما يجعل تخزين المأكولات متعذراً، ويؤدي حكماً الى غياب الإنترنت الذي باتت شبكاته على شفير الانهيار بسرعة تفوق سرعة انهيار الليرة. شبكة من الخدمات تنهار، رغم أنها حاجة ماسة في زمن الحجر المنزلي، فيما الحكومة تستعد لموجة كورونا ثانية واحتمالات العودة الى الحجر بلا كهرباء ولا ماء ولا تكييف صيفاً ولا تدفئة شتاءً، ولا إنترنت للعمل المنزلي ودروس التلامذة إذا تعذّر فتح المؤسسات التربوية.
يعيش أمراء الحرب في عالمهم، فيما «رعاياهم» يعيشون يوميّات الحرب بعد سكوت المدافع قبل ثلاثين عاماً
يوميات البؤس: حين تفقد أدوية أساسية للقلب والسرطان والأوكسيجين والبنج ومعدات للعمليات الجراحية، لكن الخبر يصبح بلا أي تأثير فعلي وكأنه لا يمسّ حياة مئات اللبنانيين الذين استنفرت حكومتهم كي لا تصيبهم كورونا، لكنها لا تخصص لمعاناتهم المرضية جلسة طارئة. يرتفع سعر الدولار الى ما يوازي عشرة آلاف ليرة في السوق السوداء، لكنه لا يستنفر فتيان المصارف الذين خلقوا منذ أشهر مشهداً صارخاً، أو المتظاهرين الذين نزلوا الى الشارع من أجل ضريبة الواتس اب. والأكيد أنه لا يستنفر العهد الذي يستقبل حاكم مصرف لبنان ورئيس جمعية المصارف ويستمع الى شروحاتهم عن الرخاء الاقتصادي، فيما منظّرو العهد لا يزالون عند نظرية عدم جواز السفر الترفيهي أو النوادي الرياضية، أو شراء اللبنانيين جبنة أو نبيذاً أوروبياً، أو كتاباً غربياً أو معدات الرسم وألوانه، بعدما أصبحت في بلد الحرف جزءاً من الكماليات. لم تصل بعد الى بعبدا أو السرايا الحكومية ما تنقله المؤسسات الخاصة التي توزع مساعدات على الأسر المعوزة من مشاهد فقر مستترة تمنعها كرامتها من التسوّل إعلامياً. ولم تصلها أصداء فواتير التأمين الصحية، ولا أن مخاوف اللبنانيين لم تعد محصورة بالأكل والشرب المرتفعة أسعارهما في سوبرماركات كبيرة محمية لا تطالها يد مصلحة حماية المستهلك أو وزارة الاقتصاد، وتأمين احتياجات أطفالهم، ولا حتى في دفع رسم «نيتفلكس» الذي صار ترفاً. بل في أن فاتورة طبيب الأسنان أصبحت تماشي سعر الدولار، وأي علاج بسيط كان يوازي 50 دولاراً أصبح يوازي بالحد الأدنى 400 ألف ليرة. وإن أي عدسة لنظارات القراءة أصبحت تقارب أيضاً السعر نفسه، وإن إطار السيارات الواحد وهو من الضرورات التي تدعو إليها كل جمعيات الحفاظ على سلامة السير، أصبح لا يقلّ عن مليون ليرة، كما تغيير زيت السيارة. وإن كلفة أي هاتف خلوي أو كومبيوتر أو حتى إصلاح أعطالهما، أصبحت تتجاوز رواتبهم، إلا إذا كان هناك من ينظّر أيضاً بأن الكومبيوتر لم يعد جزءاً أساسياً من الحياة العملية. هل هناك من ينزل الى أرض الواقع ليعرف أن إصلاح عطل في سيارة أو براد أو غسالة لم يعد أمراً بديهياً. أو أن البطاريات واللمبات ستصبح من الكماليات بحسب سعر السوق الرسمي، كما المنظفات وأدوية التعقيم وهي من الأساسيات. هذا الكلام ليس عن فاتورة تجارية أو صحية، بل هو من بديهيات العمل السياسي، الذي كان يعوم أو يساهم في انهيار أنظمة وحكومات في الشرق والغرب. روايات روسيا القديمة بكل مشاهد القمع والبطاطا المخفية في الأقبية كوجبة وحيدة، وأميركا اللاتينية والثورة الفرنسية، لم تكن إلا سياسية. لكن أمراء لبنان لا يعرفون منها إلا الشق المتعلق بكيفية ابتداع الديكتاتوريات ووسائل قمع الناس والقبض على لقمة عيشهم وأرواحهم.