وفق قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات»، يجد القائمون على التحقيق، أحياناً، ضرورة لممارسة قدر من الضغط والتعذيب من أجل استخراج المعلومات من المشتبه بهم. إذ غالباً ما يرى المحققون أن الاعتراف هو أكثر أشكال الأدلة التي يمكن الاعتماد عليها باعتباره «سيد الأدلة». ورغم تنفيذ منظمات غير حكومية عدداً من البرامج والحملات لمناهضة التعذيب، وإنفاق مبالغ ضخمة لتدريب القوى الامنية والمحققين على عدم اللجوء إلى التعذيب أثناء التحقيق، بيّنت الوقائع أن كل هذه المحاولات لم تصل الى النتيجة المتوخاة. يُعدّ التدريب على تقنيات التحقيق الحديثة، عبر استخدام أساليب التحقيقات العلمية الجنائية واتباع إجراءات قانونية تحدّ من الاعتماد على الاعترافات، من الطرق الفعالة لمناهضة التعذيب. لذلك، هناك ضرورة لإصلاح قطاع الطب الشرعي والأدلة الجنائية باعتباره قطعة مفقودة في عملية إصلاح قطاع الأمن، واستكشاف أهمية هذا القطاع أثناء التحقيق الجنائي كأداة رئيسية لحل الجرائم بدلاً من استخراج المعلومات تحت الضغط
تُخصص أموال ومشاريع وبرامج لمناهضة التعذيب وتعزيز القانون والتحقيقات، وتدعو منظمات حقوقية السلطات اللبنانية إلى حماية المشتبه بهم من التعذيب والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. لكن، رغم كل هذه المساعي لا يزال التعذيب سائدًا، بل يزداد استخدامه في القضايا المعقدة.
إنّ التحقيق بشكل سريع ونزيه في شكاوى التعذيب، وتخصيص ميزانية تسمح لوحدة مناهضة التعذيب بالعمل، وجعل قانون مناهضة التعذيب متماشياً مع المعايير الدولية، كلها عوامل يمكن ان تساهم في حظر استخدام التعذيب وسوء المعاملة بحق المشتبه بهم. الا انها ليست حلولاً جذرية. إذ أن المعضلة الأساسية تكمن في ان إجراءات التحقيق في لبنان تبالغ في الاعتماد على الاعترافات، وغالبا ما تهمل «الدليل المادي» ونتائج المباحث العلمية لحل الجرائم. وبالتالي، فان أي مساع لمناهضة التعذيب، ولكي تكون فعالة، يفترض ان تكون ضمن إطار تدريب المحققين ووكالات انفاذ القانون على استخدام الأدلة الجنائية ونتائج المباحث العلمية لحل الجرائم، وتقليل الاعتماد على «الاعترافات».

أنقر على الرسم البياني لتكبيره


خطر «الاعتراف»
الاعتماد الكبير على الاعترافات الناتجة عن «الاستجواب المعزز بالتعذيب» يمثل تحدياً ومشاكل لنظام العدالة الجنائية، وله تأثير سلبي على سير التحقيقات. فعندما يستخدم المحقق الإيذاء الجسدي والإكراه النفسي لانتزاع الاعترافات، يمكن ان يؤدي ذلك الى اعترافات كاذبة بسبب الإكراه أو التهديد أو الخوف، أو لحماية الجاني الحقيقي من العقاب مقابل المال، أو لأسباب أخرى غير قانونية.
من جهة أخرى، يقدم التحقيق الجنائي العلمي أدلة مادية وتفسيرات وآراء تستند إلى أسس علمية. بدلاً من قول «عالجوه»، اطلب جمع بصمات أصابعه لتحليلها ومقارنتها مع البصمات التي تم رفعها من مسرح الجريمة، أو استدع الخبير الجنائي لأخذ مسحة من فم المشتبه به لتحليل حمضه النووي، أو تحرَّ عن الأدلة الموجودة تحت أظافره لمقارنتها بدم الضحية او شعرها، أو اطلب دراسة «نمط حذائه» لمقارنته بآثار الاقدام حول الجثة. فالأدلة الجنائية لا تكذب، ولا تنسى، ولا تزوّر، ولا تخاف.
لذلك، يتطلب قطاع الطب الشرعي والأدلة الجنائية إصلاحاً وإدخال منهجيات تحليلية جديدة ليعمل بكفاءة وحيادية. ومن الأهداف الأساسية لإصلاح هذا القطاع، الدمج الناجح للمباحث العلمية في قطاع العدالة، وتطوير قدرات المحققين ووكالات انفاذ القانون لتلبية احتياجات نظام العدالة. وهذا سيساعد بشكل فعال في حظر استخدام التعذيب خلال التحقيقات عبر تقليل الاعتماد على الاعترافات وبالتالي تعزيز استخدام الأدلة المادية أثناء التحقيقات.

التحديات
تشكل شهادات الطب الشرعي المتحيزة تهديداً لبقية السلسلة الجنائية والمحاكمة العادلة. إذا لم تكن لدى المحكمة خبرات موثوقة وفعالة في «الطب الشرعي والأدلة الجنائية» فقد تؤدي إلى أخطاء في تطبيق العدالة وانتهاك حقوق الضحايا أو المشتبه فيهم أو المحتجزين. فالإهمال والاخطاء وعدم التدقيق في نتائج المباحث العلمية، كتشريح الجثة مثلاً، قد يحكم على جريمة القتل بأنها انتحار، ما يؤدي إلى تضليل التحقيق، وتكون له آثار سلبية بعيدة المدى على أسرة الضحية، إضافة إلى حرمانها من العدالة، أو ربما قد يُحكم على الانتحار خطأً بأنه جريمة قتل، ما يؤدي إلى إدانة أبرياء. كما أن التأخّر في إصدار تقارير المباحث العلمية والكشف الحسي ونتائج التشريح سيعيق الحق في محاكمة عادلة وسريعة، ما يبقي المشتبه بهم قيد الاحتجاز لفترات طويلة قبل إصدار الحكم.
أي مساع لمناهضة التعذيب تتطلّب التدريب على استخدام الأدلة الجنائية ونتائج المباحث العلمية لحل الجرائم وتقليل الاعتماد على «الاعترافات»


من جهة أخرى، فإن الشهادات الكاذبة من المتخصصين في الطب الشرعي والخبراء الجنائيين قد تُقنع المحكمة ببراءة متهمين أو إدانتهم من دون «ذرّة» دليل علمي، خصوصاً أنه ليس من غير المألوف ممارسة الضغط على هؤلاء لضمان نتيجة معينة قد لا تكون لها علاقة بالحقيقة العلمية. وقد يأتي هذا الضغط من وكالات مختلفة داخل نظام العدالة أو من مصادر خارجية، مثل السياسيين أو المسؤولين الفاسدين.
إضافة الى ذلك، غالباً ما تكون الأدلة الجنائية غامضة بالنسبة للقضاة، بشكل أساسي بسبب سوء فهم قيمتها الإثباتية وأهميتها، وسوء فهم نتائج تحاليل المختبر في ما يتعلق، مثلاً، بأدلة بقايا طلقات نارية (GSR)، أو الفرق بين البصمة الوراثية (الحمض النووي) وبصمة الإصبع، كذلك قلة التواصل بين القاضي وقوى انفاذ القانون، وغياب الزيارات الى أماكن الاحتجاز والتوقيف.