مهنة المحاماة، وغيرها من المهن التي تعتمد على دراسة القانون في لبنان، «غنية» بقدر تعدّد الجرائم والتعدّيات على القوانين، ما يُكسب المرء، للأسف، خبرة كبيرة. ولكن، بالقدر نفسه، يتملّكك الاشمئزاز عندما تشعر بأن مهنتك الحقوقية ستجعل منك باحثاً ممتازاً، ولكن يصعب عليك رؤية تطبيق تلك القوانين، وخاصةً حين ترى أن قوى إنفاذ القانون تفقد السيطرة على البلاد. فالإنسان بطبيعته مستذئب في غياب المحاسبة وتلاشي القواعد الصارمة، والقانون يُفرض بالقوة لغاية تحوّله إلى عادة ومسيرة يومية. المصلحة الشخصية في المحاماة نموذج يقتضي أن يدرّس. هناك محامون ومؤسسات للمحاماة يجاهرون باتهامهم للمصارف مثلاً، وإذا بهذه المؤسسات تُعلن لاحقاً على صفحات الجرائد أو الشاشات مطوّلات لإقناعنا بأن زبونها على حقّ، وتبيّن صوابية خطة زبونها أو بيانه. وتُفرِدُ لها وسائل الإعلام المقروءة صفحة أو تلك المرئية دقائق مدفوعة الثمن، والأمر مبرّر كون وسيلة الإعلام تحتاج إلى إعلانات. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: هل تتغيّر هذه المبادئ إذا كان المودِع هو الزبون! حتماً سينقلب إلى الضفة الأخرى. فكلّ يبحث عن مصلحته الشخصية، أي المنتفع. أمّا المصلحة العامة، أي ما يُعرف بالإيمان أو بالمبدأ، فتغيب كلياً. وهناك يأتي دور الضحية، أو فلنُسمّه المتضرّر.
والضرر نوعان: إمّا بسبب شخصي، أو عنصري، أو لخصومة، فتكون شهادته غير مقبولة، أو لسبب عام فيكون قوله مقبولاً. من هنا، نجد أن المنتفع -سلباً أو إيجاباً- لا يُناقش. أمّا الناس الذين لا مصلحة لهم، فنجدهم شفّافين في طروحاتهم.
حين نقرأ دراسات لأساتذة لنا، يخجل بها أيّ طالب في كلية الحقوق، نشعر بأن الطائفية هي التي تكمن وراء تحليل «خنفشاري» لمادة دستورية واضحة مثلاً. فالسياسة هنا تفسد كل شيء، وتفتك الطائفية كذلك بالقانون.
في عملي كحقوقي وكمحام سابق يتابع أعمال محامين في مؤسسة قطاعية، اكتشفت أن بإمكان هذه المهنة أن تصنع العجائب وأن تُحقق كل ما يطمح إليه المرء من تطوير للبلاد، شرط وجود نيّة صادقة وسليمة. فالقانون هو السيف الأصلح لتُقاتل به دفاعاً عن الحقّ، لكنه ينقلب خنجراً في صدر البلاد في حال قرّر المحامي التحايل على القانون لإرساء شرّ مستطير، والتشاطر قد يقلب الحقّ إلى باطل.

فداء عبد الفتاح
لم أنتظر مهنة المحاماة لأبدأ دفاعي عن المظلومين والمضطهدين وكل الفئات الأكثر ضعفاً، بل جاءت لتزيد من مسؤولياتي وتوسّع من دائرة القضايا التي أناصرها.
في السنة الأولى لتدرّجي، خضت أولى معاركي النضالية بصفتي المهنية، محامية متطوّعة للدفاع عن ممرض فلسطيني صُرف تعسفياً من إحدى المؤسسات الاستشفائية.
جادلت وناقشت وبحثت في كتب القانون والاجتهاد ووصلت إلى فلسطين سنة 1920، لأستحضر دستورها آنذاك الذي يعامل كل عربي معاملة الفلسطيني على أرض فلسطين، لأبيّن للقاضي أن شرط «المعاملة بالمثل» كان متوفراً في فلسطين الحرة، وأن الاتفاقيات الدولية التي قدّمها دستورنا اللبناني على القوانين، تصون حقّ العمل لكلّ إنسان، وتعطي كل عامل حقّه في التعويض والبدل العادل والبيئة الآمنة والضمانات الاجتماعية كافةً، بغضّ النظر عن جنسيّته أو لونه أو دينه.. لكن الواقع لم يكن كذلك.
خلال سنتين من عمر المحاكمة، أمام مجلس العمل التحكيمي بداية، ومحكمة التمييز لاحقاً، كان في ذهني هدفان: الأوّل، وقوفي إلى جانب الفئة الأكثر ضعفاً وظلماً وهم العمّال الفلسطينيون الممنوعون من العمل في عشرات المهن ووضع حدّ لاستغلالهم من قِبل أرباب العمل باللجوء إلى القضاء. والثاني، المطالبة بتطبيق مضمون الاتفاقيات الدولية الملزمة والمقدّمة على القوانين المحليّة لحماية الفئات الأكثر ضعفاً، كَون هذا ما تعلّمناه على مقاعد الدراسة، وقد حان وقت تطبيق هذه النظريات.
كنت أدرك أن كل ما أقوم به لن تتعدّى نتيجته أكثر من فتح ثغرة للنقاش والتفكير في هذه الحقوق، وأن يتجرّأ كل عامل فلسطيني استُغلّ، على رفع دعوى حقوق عمالية وإن خسرها. فالتكرار قد يصل بنا إلى فتح ثغرة للاجتهاد لو توفّر قاضٍ جريء يطبّق قواعد العدل والإنصاف ويقدّمها على النصّ القانوني الجامد.
هذا النهج المتّبع لمفهوم مهنة المحاماة لا يحمله كثيرون، وهو مرتبط بالثقافة التي ينشأ عليها كل فرد وكيف يسخّر إمكاناته وعلومه في خدمة قضاياه، إذ ينظر لكلّ قضية تُعرض أمامه بعين القاضي العادل وبعين المناضل، من أجل مجتمع أفضل وأكثر وعياً، وليس بعين المحامي التقليدي الذي يقف إلى جانب موكله، سواء كان ظالماً أو مظلوماً، وهذا لا يعني أن المحامي التقليدي غير ناجح.
لم يكن قَسَم مهنة المحاماة، الذي به نبدأ مسار حياتنا كمحامين، سوى بضع كلمات تضع ضوابط عامّة لسرية المهنة والحفاظ على آدابها وتقاليدها والتقيّد بالقوانين والأنظمة، وأن نحترم القضاء ولا نخلّ بأمن الدولة متمسّكين بالأخلاق والآداب، وأن تبقى كل أعمالنا مصدراً للثقة والاحترام. بضع كلمات يرددها عشرات المحامين الجُدد ترداداً ببغائياً، ولم يعد معظمنا يذكر أي كلمة منها، لأن الحياة العملية لمهنة المحاماة تضعنا أمام نهج مناقض لمعظم ما تعلّمناه على مقاعد الدراسة في كلية الحقوق، ويناقض نَصّ اليمين وروحه.
فكيف لنا في نظام طائفي قائم على المحاصصة أن نتقيّد بالقوانين والأنظمة؟
كيف لنا في نظام طائفي لا قيمة للكفاءة فيه من دون الوسم المذهبي أن نشعر بالانتماء إلى الدولة ومؤسساتها؟
كيف لنا أن نحترم القضاء وفي بلادنا يُختصر القضاء بسؤال كل موكل: «هيدا القاضي مين مفتاحو؟».
لم أتمكن خلال 23 سنة من مهنة المحاماة من أن أفهم قواعد اللعبة اللبنانية فيها، وأن أعتبر الموكل مجرّد زبون أقدّم له خدمة استشارية أو قانونية مقابل بدل مالي من دون أي ضمانات للربح أو الخسارة. وكيف «أجرجر» طالب الاستشارة إلى رفع دعوى أو أكثر وإن كان أمره بسيطاً يُمكن حلّه بعيداً عن تكاليف التقاضي (حسب الموضوع والقدرة المالية للموكل). حتى بات معظم أصدقائي ينادونني بـ«كاريتاس» لأنني أقدّم يومياً استشارات قانونية مجاناً، وأنصح كثيرين بحل مشاكلهم بعيداً عن زواريب القضاء والمحاكمات الطويلة. ومَن لا إمكانية للحل معه خارج آليات التقاضي العادية، أحسب ألف حساب للمبلغ المالي الذي سأطلبه منه كبدل أتعاب ورسوم للدعوى لأن تعاطفي مع حال الناس وأوضاعهم يلازمني، فكيف سيكون حالي كمحامٍ عام 2023؟
خلال 23 سنة من مهنة المحاماة، خضت معارك كبرى لملفات لم يكن سهلاً خوضها، واتّبعت آليات التقاضي الاستراتيجي في كل قضية أحملها لأنني أرى المجتمع كاملاً من خلالها. واجهت منظومة الفساد منفردة في أكثر من ملف، لا سلاح بيدي سوى أحقّية القضية التي أعمل عليها. لم أستغل يوماً معرفتي الشخصية بقاض (زملاء دراسة على سبيل المثال)، ولم أطرق يوماً باب أحدهم لأقول له صباح الخير تودّداً، ولم أتّبع أسلوب بعض المحامين باكتساب أدوات العبور لبعض القضاة أو بعض أفراد الضابطة العدلية، سواء كانت شخصية أو سياسية أو مالية أو أنثوية، وأنا لست أبالغ في ما أقول بل أنقل الواقع كما هو وبكل شفافيّة.
أن أكون محامياً في عام 2023، يعني أن أرمي وراء ظهري كل ما آمنت به وناضلت لأجله، أو أن أبحث عن عمل آخر


هذا الواقع المرّ الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، من شلل كامل في كل مؤسسات الدولة وعلى رأسها السلطة القضائية، كان نتيجة السكوت عنه ومحاولة تجميله وترقيعه من كل فئات المجتمع، وعلى رأسهم النقابات ونقابة المحامين «أمّ النقابات»، حيث تقع عليها مسؤولية الدفاع عن المجتمع وما يُحاك له خلف الكواليس.
كيف لنا أن نفخر بأننا ننتمي إلى مهنة الحقّ والعدالة ونحن نمارس بأبسط المهام خلاف ذلك، من بدء تجهيز ملفّنا للانتساب إلى النقابة، وصولاً إلى الامتحانات الشفهية والخطية، مروراً بسنوات التدرّج الثلاث، وختامها بامتحان مصيري آخر لتنال بنتيجته لقب «محام بالاستئناف». وترمى في غربال طائفي ومذهبي وسياسي ضيّق يحسب الأصوات الانتخابية بكل دقّة وأمانة.
هذه هي حالنا، رعايا في منظومة طائفية تحمي مصالح الطوائف وتوزّع الغنائم بينها بالعدل، تتميّز بازدواج المعايير. فالحقّ ليس واحداً والعدل ليس واحداً، والنص القانوني تختلف تطبيقاته بين قضية وأخرى، ولم تكن لنا يوماً قضية مركزية جامعة.
تُمارس بحقنا الانتهاكات على أنواعها، وما مرّ علينا خلال السنوات الثلاث الأخيرة يستحق دخولنا موسوعة غينيس لجهة أكثر الشعوب ولاءً للمنظومة الطائفية وسكوتاً على الطغمة الحاكمة من دون أي مقابل.
في عام 2023، ماذا يعني أن تكون محامياً؟
يعني أن أرمي وراء ظهري كل ما آمنت به وناضلت لأجله وأعود إلى ممارسة مهنتي بشكل تقليدي أوتوماتيكي، من دون أن أتعاطف مع الناس، أو أن أبحث عن عمل آخر لأحمي ما تبقّى من إنسانيتي من أجلي ومن أجل أولادي.

نقيب المحامين يعرّف عن نفسه


ناضر كسبار*
بما أن الإنسان ابن بيئته، فقد اخترت المحاماة لأنني نشأت في بيت حقوقي بامتياز. دخلت كلية الحقوق في الجامعة اليسوعية. ثم انتسبت إلى نقابة المحامين في مكتب كسبار ومارست المحاماة في مكتب النائب المحامي أوغست باخوس.
كنت أحضر إلى المكتب منذ الصباح الباكر، ولا أغادره قبل التاسعة أو العاشرة ليلاً. أقرأ الملفات، أكتب الاستحضارات واللوائح والمذكرات والشكاوى والاستدعاءات وأتابع الدعاوى في المحاكم، وأحضر الجلسات. والأهم أنني كنت أطالع كثيراً، وأفتش في الكتب والمراجع اللبنانية والعربية والفرنسية. وقد ساعدني في مسيرتي، أنني قمت منذ عام 1990 وحتى وقتنا الحاضر، بقراءة وتلخيص آلاف الأحكام والقرارات ونشرها في صحيفة الديار، ولاحقاً على عدة مواقع مثل «محكمة» و«الكلمة أونلاين» و«اللبنانية» و«ZNN». كما كتبت آلاف المقالات الحقوقية، ورثاء لزملاء محامين غادرونا إلى دنيا الحق.
من هنا، انتقد بعض المبتدئين في المهنة الذين يشكون من طلب مُدرجهم البقاء بعد الظهر في المكتب. إذ إن المتدرّج هو مبتدئ في المهنة وعليه، برأيي، أن يُعطي معظم وقته للقراءة والكتابة وحضور الجلسات، والتفتيش في المراجع وطرح الأسئلة على زملائه في المكتب، حتى يستفيد من فترة تدرّجه إلى أقصى الحدود.
في عام 2006، أبلغت معلّمي الأستاذ باخوس عن نيّتي بالترشّح لمركز عضوية مجلس نقابة المحامين. فشجّعني طالباً مني التنبُّه إلى عدة أمور، منها أن البعض قد لا يقدّر قيمة ما يقوم به مَن يتعاطى الشأن العام كما يجب. وقال لي عبارة أُرددها دائماً أمام زملائي وأصدقائي:
»إذا أردت أن تغطس في الشأن العام، عليك أن تكبّر عقلك. وأن تطنّش عن الكثير من الكلام والشائعات. وأن تتحلّى بالصبر؛ وإلّا بيصير معك انفجار براسك».
خضت الانتخابات، وفزت بالمرتبة الأولى، وكذلك الأمر في عام 2010 فزت بالمرتبة الأولى وبتفوّق. وأنا المستقل استقلالاً تاماً عن الأحزاب. وفي عام 2021 فزت بمنصب نقيب، ولم يكن إلى جانبي أي حزب أو حركة أو تيّار على الإطلاق، إذ كانوا جميعهم يدعمون مرشحين آخرين. كما أن الثورة، بيمينها ويسارها، كانت تدعم مرشحين، ومع ذلك فزت فوزاً ساحقاً.
فأنا متابع لجميع شؤون المحامين وشجونهم. والمحامي بالنسبة إليّ هو همّي الأول، وعلى تواصل مع المحامين بشكل يومي. ومنذ انتخابي نقيباً للمحامين، وأنا أعمل ليل نهار من أجل المحامين والنقابة. وما نحقّقه من مشاريع يومية، ومن مؤتمرات ومحاضرات وندوات، ومن زيارات للمناطق، خير دليل على قربنا من زملائنا المحامين ومن نقابتنا، التي نريدها دائماً وأبداً رائدة ومتألقة.
وأخيراً، أدعو الزملاء المحامين إلى تثقيف أنفسهم، ومتابعة القراءة والتفتيش والاجتهادات والفقه. كما أدعوهم، وخصوصاً الجُدد منهم، إلى إتقان عدة لغات أجنبية جيداً، لأن العالم بات قرية كونية، والدول منفتحة بعضها على بعض، والنجاح حليف من يواكب العلم والتكنولوجيا.

* نقيب المحامين في بيروت