لم تسلم مراكز الاحتجاز، كغيرها من المرافق، من التأثر بالأزمة الاقتصادية، فمع مرور السنوات وانهيار الليرة، وفي غياب سياسة واضحة من قبل الدولة في تحديد الأولويات، انهارت أماكن التوقيف لغياب الصيانة الدورية والافتقار إلى أدنى المقومات المطلوبة لأداء المهام بشكل سليم. من هم على تماس مع هذه المراكز من محامين وجمعيات يعرفون حقيقة الصورة من الداخل. فهناك مراكز غير آمنة للعمل ومهددة بالانهيار، وأخرى بحاجة إلى صيانة شاملة متعلقة بالتمديدات الصحية والكهربائية، هذا إذا تخطّينا أزمة النظافة والأوبئة والحشرات وعدم توفر القرطاسية والمياه وأجهزة التبريد والتدفئة والنقص في الآليات والعديد.
كما غابت روحية العمل في بعض المراكز نظراً إلى ما يعانيه عناصر القوى الأمنية من ضغوط اقتصادية وعدم راحة في أداء واجباتهم. فكيف يمكن لعنصر قوى أمن يعيش من راتب لا يتجاوز 100الـ دولار شهرياً، مشوّش التفكير بمصاريف أولاده المدرسية أو بتكاليف الطبابة أو بتأمين قوتهم اليومي، أن يلتحق بخدمته التي غالباً ما تكون في أماكن بعيدة عن سكنه، وأن يؤدي عمله ويجري تحقيقاته ويعرّض نفسه لخطر المواجهات أثناء المداهمات، في بيئة عمل مرهقة من كل الجوانب، ومن دون أي ضمانات صحية واجتماعية.

تحوّل التوقيف القانوني إلى تعسّفي
حددت المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية المدة التي يسمح بها للضباط العدليين باحتجاز شخص بعد إذن مسبق من النيابة العامة ضمن مدة لا تزيد على 48 ساعة يمكن تجديدها مدة مماثلة فقط، بناءً على موافقة النيابة العامة.
كما تنص المادة 108 من القانون نفسه على أنه لا يجوز أن تتعدى مدة التوقيف في الجنحة شهرين، يمكن تمديدها مدة مماثلة كحد أقصى في حالة الضرورة القصوى. ما خلا جنايات القتل والمخدرات والاعتداء على أمن الدولة والجنايات ذات الخطر الشامل وجرائم الإرهاب وحالة الموقوف المحكوم عليه سابقاً بعقوبة جنائية، لا يجوز أن تتعدى مدة التوقيف في الجناية ستة أشهر يمكن تجديدها لمرة واحدة بقرار معلل.
يجري احتجاز الموقوف في النظارات وفي مراكز التوقيف التابعة للقوى الأمنية، ومن المفترض أن يُتّخذ قرار بعدها إمّا بتحويله إلى السجن أو إطلاق سراحه، لكن للأسف نلاحظ أن كثيراً من نزلاء هذه الأماكن يبقون فيها أكثر من المدة المحددة في القانون، وقد تتجاوز أحياناً أكثر من سنة، ويعود ذلك لأسباب عدة أبرزها الاكتظاظ في السجون والإضرابات القضائية والتأخر بمعالجة الملفات والطلبات القانونية، فيتحول التوقيف المؤقت إلى دائم والتوقيف القانوني إلى احتجاز تعسفي بإشارة قضائية.

الهيئة الوطنية تزور مراكز الاحتجاز
صرّح رئيس الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان المتضمنة لجنة الوقاية من التعذيب، القاضي فادي جرجس، في اتّصال معه للحديث عن دور الهيئة في ظل هذه الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، أنه لم تتم لغاية تاريخه الموافقة على النظام الداخلي والمالي للهيئة، ما يعيق صرف الميزانية المخصّصة لها، وأنه رغم تخلّف الدولة عن تخصيص مقر لائق للهيئة وتحديد مخصّصات الأعضاء، فإنهم لم يستسلموا، ويعملون بشكل تطوّعي في محاولة للقيام بجزء بسيط من المهام الواسعة المنوطة بالهيئة.
وأضاف جرجس أن الهيئة تحاول الاستعانة بمتطوعين يؤمنون بقضيتها، وتبحث مع جهات دولية ومنظمات حقوق الإنسان لتمويل مشاريع شراكة تسمح لها بزيارة أكبر عدد ممكن من أماكن احتجاز الحرية الموزعة على الأراضي اللبنانية كافة، ورصد التجاوزات فيها.
في هذا الإطار، ومع المعوقات الموصوفة التي تتعرض لها، أطلقت الهيئة مشروعها الأول بالشراكة مع إحدى المنظمات الأممية، وباشرت بزيارة أماكن الاحتجاز بالاستعانة بفريق صغير نسبياً لرصد الانتهاكات في السجون والنظارات والتأكد من تطبيق القوانين، ولا سيّما المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية ووضع تقرير نهائي بذلك.


كما أكد جرجس على مهام الهيئة واللجنة التي تنصّ عليها المادة 15 من قانون إنشاء الهيئة الرقم 62/2016، إذ تعمل على حماية حقوق الإنسان وتعزيزها في لبنان وفق المعايير الواردة في الدستور اللبناني والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات والمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، والقوانين اللبنانية المتفقة مع هذه المعايير، ولها أن تتواصل بشكل مستقل مع الهيئات الدولية والمحلية المعنية بحقوق الإنسان.
كما أن للجنة الوقاية من التعذيب التي تعمل ضمن الهيئة على حماية حقوق الأشخاص المحتجزين والمحرومين من حريتهم، الصلاحية المطلقة لدخول وزيارة جميع أماكن الحرمان من الحرية ومنشآتها ومرافقها في لبنان من دون أي استثناء، وذلك بهدف حماية الأشخاص الموجودين فيها من التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة ومن التوقيف التعسّفي والتعاون مع السلطات المختصة والحوار معها، لتفعيل وتطوير القوانين والأنظمة المتعلقة بالمحتجزين وأماكن الحرمان من الحرية.
جرجس: رغم تخلّف الدولة عن تخصيص مقر لائق للهيئة وتحديد مخصّصات الأعضاء لم يستسلموا ويعملون بشكل تطوّعي للقيام بجزء بسيط من مهامها


كلّف القانون الهيئة مهام واسعة، منها رصد مدى تقيّد لبنان بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني ووضع ونشر التقارير الخاصة أو الدورية بشأنها. والمساهمة المستقلة في التقارير المتوجبة على الدولة اللبنانية وإبداء الرأي في كل ما تستشار به الهيئة من المراجع المختصة، أو تبادر إليه لناحية احترام معايير حقوق الإنسان. كما لها الحق بتلقي الشكاوى والإخبارات التي تردها المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان، والمساهمة في معالجتها عن طريق المفاوضة والوساطة، أو عن طريق المقاضاة والمساهمة في نشر ثقافة حقوق الإنسان وتحفيز تنفيذ برامج التربية على حقوق الإنسان وتطويرها.
خلص جرجس إلى أنه لا يمكن حصر المسؤولية عمّا تمر به أماكن الاحتجاز والتوقيف والسجون بجهة واحدة، فالمسؤولية تتوزع، والمتضرر الوحيد هم الأشخاص المحتجزة حريتهم والمنتهكة حقوقهم، فتطبيق العدالة يبدأ من احترام عناصر ضابطة العدلية لحقوق الإنسان أثناء التوقيف وخلال التحقيق مع المتّهمين من خلال الالتزام بروحية المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية. كما أن للقضاة دوراً مهماً بمتابعة الملفات وتسريع الإجراءات القضائية وتعيين جلسات محاكمة قريبة وعدم الاعتكاف عن ممارسة مهامهم المتمثلة بزيارة أماكن الاحتجاز والسجون للاطلاع على المشكلات عن قرب. وللقيّمين على مراكز الاحتجاز والسجون الدور الأساسي في حسن إدارة تلك المرافق من أجل تخطي المرحلة التي نمر بها وعدم الخضوع للأزمة وإيجاد حلول بالإمكانات المتوفرة من أجل التخفيف من نتائجها، فمن الضروري التكاتف والعمل من أجل علاج المشكلة من جذورها بدءاً من صيانة السجون وتأهيلها وصولاً إلى حثّ الجسم القضائي على تكثيف جهوده منعاً لتراكم الملفات ووصولاً إلى نشر التوعية على حقوق الإنسان في المجتمع ككل.