لا مكان آمناً في غزة، و«علم الأمم المتحدة لم يعد كافياً لحماية الفلسطينيين»، كما أعلن مدير وكالة الأونروا في قطاع غزة، مؤكداً ليس فقط عجز الوكالة عن القيام بدورها ومهامها بحماية النازحين الموجودين في مراكز وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى («أونروا»، بل أيضاً تنصّل الوكالة من القيام بمهامها وواجباتها وأهدافها الأساسية التي أنشئت من أجلها. وأتى هذا التصريح بُعيد مجزرة جديدة تعرضت لها مدرسة جباليا في غزة، من ضمن سلسلة مجازر تتعرض لها المدارس ومراكز الإيواء المعدّة لاستقبال النازحين في غزة. ومنذ بداية العدوان لجأ نحو 700 ألف نازح إلى 92 مدرسة من بينها 83 تابعة لـ«أونروا». وتعرضت قرابة 20 مدرسة تحتضن نازحين لاستهدافات مباشرة، عدا عن تلك التي تصيب محيط المدارس بشكل دائم.
ويمكن رصد المجازر التي استهدفت المدارس منذ بداية العدوان لغاية 14 من الشهر الجاري كالآتي:
في 8 نوفمبر استُهدفت مدرسة تابعة لـ«أونروا» في خان يونس (قرب مفترق أنصار) تضم عدداً كبيراً من النازحين، أصيب العشرات منهم.
بين 3 و4 نوفمبر، أي خلال 24 ساعة فقط، صبّت طائرات الاحتلال حممها على خمس مدارس مرتكبة العديد من المجازر، أبرزها في مدرسة الفاخورة في جباليا («أونروا») كانت تؤوي آلاف النازحين، ما أدى إلى استشهاد عشرات الفلسطينيين وجرح آخرين. وتعرضت مدرسة أسامة بن زيد في الصفطاوي، أيضاً، لقصف مباشر أدى إلى استشهاد ما لا يقل عن 50 وإصابة العشرات. وارتقى 20 شهيداً وأصيب العشرات في قصف مدفعي استهدف مدرسة في شمال غزة. وفي مدرستين في مخيمَي جباليا والشاطئ، استُشهد 23 نازحاً. وفي 2 نوفمبر قصف العدو الإسرائيلي مدرسة أبو حسين («أونروا») في مخيم جباليا، ما أدى إلى استشهاد ما لا يقل عن 20 وعشرات الجرحى، كما قُصفت مدرسة أبو عاصي بالقذائف الفوسفورية المحرم استخدامها في الأماكن المأهولة، ما أدى إلى استشهاد 5 نازحين على الأقل. كما استهدفت مدرستين تحولتا إلى ملاجئ في مخيم البريج للاجئين، ما أسفر عن استشهاد شخصين على الأقل، وعشرات الجرحى. وفي 8 نوفمبر استهدفت مدرسة تابعة لـ«أونروا» وسط مدينة غزة، ما أدى إلى استشهاد العشرات. وفي العاشر من هذا الشهر ونتيجة للقصف الإسرائيلي المباشر لمدرسة البراق، انتُشل 50 شهيداً على الأقل.
وجنّبت العناية الإلهية آلاف النازحين في مدرسة تؤويهم شمال قطاع غزة من مجزرة كبيرة، عندما استهدفت صواريخ الطائرات المعادية ساحة المدرسة على نحوٍ مباشر، ما أحدث حفرة عميقة جداً، وكان النازحون حينها في أسرّتهم ما حال دون حدوث الكارثة.
هكذا يبدو بما لا يقبل الشك، القصد العمدي لارتكاب إسرائيل جرائم الإبادة باستهدافها الأمكنة التي تضم أكبر عدد من الفلسطينيين، وهم بطبيعة الحال مدنيون عزّل، غير آبه بما تتمتّع به هذه الأمكنة من حماية وفقاً للقانون الدولي الإنساني.

يوميات نازح في مدرسة
في ظل الحصار المحكم على قطاع غزة، ومنع وصول المساعدات إلا ما نُدر، تتردى يوماً بعد يوم أوضاع النازحين داخل المدارس، فيما الـ«أونروا» عاجزة عن تقديم الحد الأدنى، لبقاء النازحين على قيد الحياة. وليس خافياً على أحد ما تعانيه غزة من نقص حادّ في المياه والطحين، وانعدام الكهرباء والوقود، مع العلم أن هناك، وفق مصادر الـ«أونروا»، حوالى 700 ألف نازح توزعوا على 92 مدرسة تابعة لها، وأقرّت الوكالة أنها غير قادرة على الوصول إلى 57 مدرسة يقدّر بأنها تؤوي حوالى 160 ألف نازح حتى 12 تشرين أول، بعدما صدرت أوامر بالإخلاء من قبل سلطات الاحتلال، وأنها عاجزة إزاء ذلك عن تقديم المساعدة أو حماية النازحين، وليس لديها معلومات عن احتياجاتهم وظروفهم. وهذا ما يطرح كثيراً من علامات الاستفهام، سيّما أن هذه المهام تأتي في صلب الغاية التي تأسّست من أجلها الـ«أونروا». أما بالنسبة إلى تلك الخاضعة لرعاية الوكالة فوضعها لا يبدو مغايراً كثيراً، وتُشير الوكالة في تقريرها إلى خطر تزايد الأزمة الصحية العامة، في ظل بيئة تتسم بالنزوح الجماعي واكتظاظ الملاجئ، والأضرار التي لحقت بالبنية التحتية للمياه والصرف الصحي، ويضيف التقرير أن الظروف في الملاجئ غير إنسانية وتشهد مزيداً من التدهور مع مرور الأيام. ويلفت التقرير إلى أن المساحة المتاحة للشخص الواحد مثلاً في مركز تدريب خان يونس التابع لها، أقل من مترين مربعين، ويتشارك 600 شخص على الأقل مرحاضاً واحداً! فيما تستضيف إحدى المدارس في مخيم المغازي أكثر من 22800 نازح! والوضع ينسحب على باقي المدارس لجهة الاكتظاظ. وهي ليست مصمّمة لاستضافة هذا العدد الهائل من الناس ولا تتوافر فيها مرافق كافية لتوفير ظروف معيشية آمنة وكريمة. ولعلّ أكثر من يتأثر بهذه الظروف المعيشية القاسية في الملاجئ هم ذوو الاحتياجات الخاصة، مثل الأشخاص ذوي الإعاقة والحوامل وكبار السن ومرضى السرطان والأمراض المزمنة الأخرى، كون هذه الملاجئ غير مجهّزة لتقديم الخدمات المتخصّصة التي تحتاجها هذه الفئات الضعيفة.
تتردى يوماً بعد يوم أوضاع النازحين داخل المدارس، فيما الـ«أونروا» عاجزة عن تقديم الحد الأدنى، لبقاء النازحين على قيد الحياة


وإلى ذلك، أبلغت ملاجئ الـ«أونروا» عن آلاف الحالات من التهابات الجهاز التنفسي الحادة والجلدية والإسهال، إضافة إلى حالات جدري الماء. ووفق الكاتبة شهد صافي التي نقلت تجربتها كنازحة في إحدى المدارس، عبر مدوّنة «غزة إبادة جماعية»، تحت عنوان
in ghaza To be displaced at UNRWA school «أن تنزح إلى إحدى مدارس الأونروا في غزة»، شارحةً أنه «ليس لديك سرير لتستلقي عليه في الليل، ولا وسائد ولا بطانية. المرتبة الخاصة بك هي أرضية الفصل الدراسي. بطانيتك هي الملابس التي ترتديها. لا شيء يدفئ جسمك عندما يكون الجو بارداً. وسادتك هي حقيبة الطوارئ الصغيرة التي حزمتها قبل أن تهرب من منزلك، وهي محشوّة ببعض الملابس والوثائق المهمة مثل بطاقة الهوية وشهادة الميلاد وجواز السفر (إذا كان لديك واحد فهو ترف للفلسطينيين الذين يعيشون في غزة)». وتتابع صافي مفصلةً أبرز المعاناة داخل مدارس النزوح: «لا يوجد ماء للشرب أو غسل الملابس أو الاستحمام به. أنت تتبارى للعثور على الماء لعائلتك. قد تتمكن من ملء خزان أو خزّانين من المسجد الأقرب للمدرسة، وفي الحمام هناك مائة شخص آخر ينتظرونك في الخارج لتغادر، ويطرقون الباب ويحثونك على الانتهاء. هناك نقص في الدقيق في غزة، وبالتالي ليس هناك ما يكفي من الخبز. يمكنك شراء الحزمة الواحدة المسموح بها لكل عائلة، حتى لو لم تكن كافية لإعالتهم (وهذا الحديث قبل أن تتوقف معظم المخابز عن العمل)... موظفو الأونروا يقدمون لك الجبن الأبيض، الذي لا يكفي ولكنك شاكر للصدقة...». وفي ظل انعدام الكهرباء يبدو محظوظاً من يعثر على شخص يعيش في الحي بالقرب من المدرسة الذي يقع فيه المبنى مدعوماً بما تبقّى من ألواح الطاقة الشمسية الناجية من طائرات العدو، ما يمكّنه من شحن هاتفه الخلوي. ولعلّ ما تقوله شهد صافي في مدونتها، يكاد يختصر حالة القلق التي يعيشها كل فلسطيني حالياً في غزة. فـ«أن تكون نازحاً في إحدى مدارس الأونروا يعني أنك تنظر باستمرار إلى السماء، وتدعو من أجل ألا يتعرض المكان الذي يؤويك للقصف، أنه لن يتمّ ذبحك أنت وعائلتك. هو أن تتخيل والديك وإخوتك باستمرار تحت أنقاض المدرسة، جسدك ممزقاً وأنت غير قادر على مساعدتهم، وروحك قد رحلت».

العام الدراسي وكل الأعوام الدراسية تُحتضر
كان من المفترض أن يكون أكثر من 300 ألف طفل فلسطيني، ملتحقين الآن في صفوفهم المدرسية، وذلك أسوة بغيرهم من أترابهم خارج حدود غزة. إلا أن طائرات العدو نسفت مقاعدهم الدراسية وقضت على أحلامهم، بعد أن استهدفت الكثير منهم في أماكن الإيواء، مجهّزةً على العام الدراسي بأكمله. فوفق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، أنّ الغارات الإسرائيلية ومنذ بدء العدوان في 7 أكتوبر، ولغاية مطلع الشهر الحالي، استهدفت 253 مبنى مدرسياً بحيث ألحقت بها أضراراً فادحة، وخرجت منها 60 مدرسة على الأقل عن الخدمة كلياً بعد أن تمّ تدميرها بالكامل. ما يعني أن معظم المدارس في غزة استُهدفت، كما أنه ووفق وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، ارتقى حتى التاريخ عينه ما لا يقلّ عن 3000 شهيد من الطلاب و120 من الكادر التعليمي (يضم أساتذة تابعين لوكالة الأونروا)، وهذه الأرقام ارتفعت بكل تأكيد في ظل استمرار المجازر المرتكبة بحق المدنيين. وهذا المشهد يؤكد استحالة الاستمرار بالعام الدراسي حتى ما بعد انتهاء الحرب، فعلاوة على ما ذكر أعلاه عن استشهاد عدد كبير من الكادر التعليمي، والطلاب، وتدمير المدارس، إذ إن هناك تدمير ما يقرب من نصف المباني السكنية في غزة، ما يعني تشريد مئات الآلاف من العائلات، إلى أن تتم إعادة البناء والتي ستطول أشهراً على الأقل، وعليه فإن وجهة هؤلاء ستكون حتماً اللجوء إلى المدارس، التي يستحيل عليها أن تكمل العام الدراسي في ظل كل هذه التداعيات.

العدوان يسمو على القانون الدولي الإنساني
عرّت الحرب القذرة على غزة، حقيقة النظام الدولي وما يحويه من مفاهيم ومصطلحات، ومنها القانون الدولي الإنساني، التي تُنسف جميع قواعده ومبادئه، كل دقيقة في غزة، عبر آلة العدوان الإسرائيلية التي تحصد مئات المدنيين العزّل جلّهم من الأطفال والنساء، وتقصف جميع المنشآت والمباني التي يُفترض أنها محمية وفقاً لتلك القوانين. إذ إنه ووفق الأستاذ في القانون الدولي الدكتور محمد طي، «يحظّر استهداف المدارس حيث أماكن تجمّع النازحين، ويشكل ذلك في حال حصوله جريمة حرب، أما إذا كان الاستهداف ضمن هجوم واسع على المدنيين، أو إذا كان مبرمجاً، والقائمون به يدركون أنهم يستهدفون المدنيين، فهذا أخطر ويرتقي إلى مستوى جريمة ضد الإنسانية»، وهو ما يحدث حالياً في غزة. أما عن استخدام الذخائر المحتوية على الفوسفور، (والتي أُلقيت على مدرسة أبو عاصي أخيراً) فهو يعتبر «خرقاً لاتفاقية جنيف (1980)، التي تحظّر رمي هذه الذخائر في الأماكن المأهولة، لأنها تصيب من دون تمييز بين مدنيين ومقاتلين، وتسبّب آلاماً لا مبرّر لها، وهي محرّمة في تلك الحالة». ولكن كيف يمكن تنفيذ هذه القوانين، يجيب الدكتور طي، بأنّ «القانون لا ينفذ نفسه بنفسه، بل لا بدّ من سلطة تنفذه، وعلى النطاق الدولي لا سلطة فوق الدول، تبقى القوة هي الضامنة».