في غرفة التحقيق، جلس المحقق عادل المصري أمام الدكتورة أميرة جمال، جرّاحة الأعصاب الشهيرة المشتبهة بقتل طليقها. المحقق، المعروف بتشككه الثابت، وجد نفسه منجذباً بطريقة غير مفسّرة إلى سلوكها الهادئ وعينيها الحزينتين. كل كلمة تنطقها، مشبعة بالحزن والندم، كانت تنخر في جدار الشك الذي بناه بعناية. «ترسم الأدلة صورة قاتمة، صورةً من اليأس لا من نيّة القتل»، يقول المحقق محاولاً إقناع القاضي بفرضية الانتحار، فهو يرى أن المشتبه بها امرأة ناجحة و«مستحيل تعملها». أهمل المحقق نتائج الخبرة الفنية والمباحث العلمية في القضية موضوع مهمته، والتي تنسف بشكل حاسم رواية الانتحار، وبدأ يحرّف التحليلات العلمية للأدلة الأخرى لوضعها في السياق والإطار اللذين يخدمان فرضيته المزعومة. إلى ذلك، بنى المحقق قضيته ببراعة. شرح تدهور الحالة النفسية للضحية، مشيرًا إلى الضغوط المالية، والعلاقة المتصدعة، والعزلة الاجتماعية. قدّم سجلات ماليةً تكشف عن ديون متصاعدة، ورسائلَ إلكترونيةً تُظهر علاقاتٍ شخصية متوترة، ومنشوراتٍ على وسائل التواصل الاجتماعي تلمحُ إلى يأسٍ متزايد.يمكن أن يلعب تأثير الهالة دورًا خفيًا وإشكاليًا في التحقيقات الجنائية، ما قد يؤدي إلى تقييمات متحيّزة للمشتبه بهم والشهود والأدلّة. فمن المفترض أن تعتمد «العدالة» على التقييم الدقيق لجميع الأدلّة المتاحة، وليس على «الكاريزما» أو البلاغة لأيّ فرد، سواء كان قاضيًا أو محققاً أو خبيرًا أو مشتبهًا به أو أي شخص آخر مشارك في الإجراءات. من خلال فهم المخاطر المحتملة لتأثير الهالة، يمكن للقائمين على نظام العدالة الجنائية السعي لتحقيق موضوعية أكبر وضمان استخلاص استنتاجاتهم بناءً على أدلة قوية، وليس على تحيّزات لاشعورية.

تأثير «الهالة» على القضاة
يُمكن أن يكون لـ«تأثير الهالة» عدد من التأثيرات المحتملة على القضاة، منها التحيّز المسبق لأحد الأطراف، فإذا كان لدى القاضي انطباع إيجابي عن طرف معين بسبب مظهره أو سلوكه أو خلفيته المتصورة، فقد يميل دون وعي إلى الحكم لمصلحته. وهذا يمكن أن يكون إشكاليًا لأنه قد يؤدي إلى قرارات غير عادلة. إلى ذلك، فإن القاضي الذي ينظر إلى المتهم بشكل إيجابي قد يكون أكثر ميلًا لإصدار عقوبة أخف أو تقديم خيارات عقوبة بديلة. وهذا يمكن أن يكون مفيدًا للمتهم، لكن يمكن اعتباره غير عادل من قبل الضحية أو المجتمع بصفة عامة.

تأثير الهالة لدى المحقق: عندما يضيء الانطباع الأول ويعمي البصيرة
يُشير «تأثير الهالة» لدى المحققين إلى تحيز إدراكي، إذ حيث يؤثر انطباعهم الإيجابي العام عن شخص ما بشكل لاشعوري على أحكامهم وتصرفاتهم في قضية معينة. وهذا يمكن أن يؤثر على التحقيق بعدة طرق، أولاً من خلال معاملة تفضيلية لبعض المشتبه بهم. فقد يُعامل المشتبه بهم الجذابون أو الأنيقون باحترام أكبر ويخضعون لاستجواب أقل صرامة، أو قد يُمنح المشتبه بهم ذوو المكانة الاجتماعية العالية (مثل المحترفين والمشاهير) المزيد من التسامح أو يُعطى تفسيرهم وزنًا غير مبرر. الأخطر من ذلك هو التقييم المشوّه للأدلة، عندما يقلّل المحققون (من دون وعي) من أهمية الأدلة أو يتجاهلونها إذا كانت تتناقض مع انطباعهم الإيجابي عن المشتبه به، بينما يقبلون بسهولة الأدلة التي تعززه. في حالات أخرى، قد يتم إعطاء مصادر المعلومات التي يُنظر إليها على أنها أكثر موثوقية (على سبيل المثال، بسبب تأثير الهالة) وزنًا أكبر لشهادتها، حتى لو كانت غير موثوقة، فتصبح «الموضوعية والعدالة» معرّضتين للخطر بسبب تداخل تحيّزات المحقق الشخصية وافتراضاته مع قدرته على إجراء تحقيق شامل محايد، فيما يتم إهمال خطوط معينة من الاستفسار، الأمر الذي قد يؤدي إلى إغفال أدلة حاسمة، إذا كانت تلقي الشك على الانطباع الإيجابي الأوّلي للمحقق.



تأثير الهالة على الخبراء والأطباء الشرعيين: عندما تطغى الخبرة على الواقع
قد يلعب «تأثير الهالة» دورًا مهمًا في قاعة المحكمة عندما يتعلق الأمر بالخبراء. إن مشاهدة سلوكهم الواثق، ومؤهلاتهم المثيرة للإعجاب، وتفسيراتهم الواضحة، يمكن أن تؤثر من دون وعي على القضاة، ما قد يعطي شهادتهم وزنًا غير مبرر حتى لو لم يكن ذلك مستحقًا تمامًا. فقد يُنظر إلى الخبراء الذين يرتدون ملابس أنيقة، ويتحدثون ببراعة على أنهم أكثر موثوقية ومعرفة، بغض النظر عن خبرتهم الفعلية. والأخطر من ذلك أنه عندما تتوافق شهادة الخبير أو الطبيب الشرعي مع معتقدات القاضي، فقد يتم قبولها بسهولة دون تقييم نقدي، بينما قد يتم تجاهل الآراء المخالفة.
إلى ذلك، يميل بعض الخبراء والأطباء إلى الاعتماد المفرط على المصطلحات المعقدة والتقنية واستعمال لغة متخصصة، والتي، بينما تهدف إلى إظهار المعرفة، يمكن أن تبدو ساحقة بالنسبة إلى عامة الناس، ما قد يخلق هالة من العصمة حول استنتاجاتهم. في أحيان أخرى، لا يكون القضاة مجهّزين للتعرف إلى قيود الشهادة الخبيرة، وخاصة في المجالات خارج نطاق تخصصهم، وبالتالي قد يفترضون أنّ أيّ رأي خبير يمثّل حقيقة مطلقة، متجاهلين التحيّزات المحتملة أو العيوب المنهجية.

* جميع الأسماء مستعارة


لسنا نُبصرُ بوضوح
لم تتوفر بعد بيانات شاملة عن الجرائم لعام 2023 بأكمله في لبنان، فيما تشير التقارير الواردة للأشهر السبعة الأولى من العام إلى انخفاض كبير في الجريمة مقارنةً بالفترة نفسها من عام 2022. فقد أفادت قوى الأمن الداخلي عن انخفاض بنسبة 38% في إجمالي الجرائم المبلّغ عنها، بما في ذلك انخفاض في سرقة السيارات (24%) والقتل (22%) والنشل (52%).
قد يُنظر إلى الخبراء الذين يرتدون ملابس أنيقة، ويتحدثون ببراعة على أنهم أكثر موثوقية ومعرفة بغضّ النظر عن خبرتهم الفعلية


وبغضّ النظر عن عدد الجرائم التي تم تسجيلها، والتي تتناول نسبة الشكاوى المسجلة لدى القوى الأمنية لا نسبة أنواع الجرائم المرتكبة (راجع القوس: نِسَب الجريمة)، كنا قد لاحظنا في قسم المختبر الجنائي في «القوس»، على مدار عام 2023، ابتكارات جديدة للمجرمين بما في ذلك تنظيف مسرح الجريمة وفبركة الأدلة. كما لفتنا إلى مؤشرات مقلقة عن تنامي أنواع جديدة من الجرائم تعكس الانهيار الاقتصادي والأزمة الاجتماعية والانحلال الأخلاقي و«فلتان» الأطفال في الشوارع. (راجع القوس: مؤشرات مقلقة).
وما يزيد الطين بلة، شلل المرفق القضائي وازدياد السلوكيات التي تخالف القواعد والإجراءات التي يجب اتباعها في الإجراءات الجنائية، أبرزها تسريب التحقيقات وإطلاق الأحكام والإدانات المتسرعة. يضاف إلى ذلك المشكلات والتحديات الأخرى التي تواجه عمل القائمين على نظام العدالة الجنائية والتي تعود إلى النقص في المعرفة والكفاءة والشغف، وتدهور قيمة الرواتب والأجور، مع ازدياد نفوذ السلطة الإعلامية، والتي كانت في قضايا عدة تتولّى دور المحقق القضائي وتتسرّع في حسم الحقائق وإصدار الأحكام وإطلاق الإدانات قبل صدور الأحكام من المحكمة المستقلة.
وبعد عامين من مراقبة اتجاهات الجريمة واستكشاف التحديات والمشاكل التي تواجه التحقيقات الجنائية والشرعية، يبدو أن نظام العدالة الجنائية في لبنان لا يبصر بوضوح.